كتابات وآراء


الإثنين - 02 سبتمبر 2019 - الساعة 12:49 م

كُتب بواسطة : أ/ علوان الحيلاني - ارشيف الكاتب




هو واحد من الشعراء الذين قدموا صورة حقيقية وناجحة لمواجيد الإنسان اليمني خلال الـ50 عاماً الماضية، كما أنه واحد من الشعراء المهمين في التاريخ اليمني كله. وهو واحد من مبدعي زبيد الذين تذكرنا توهجاتهم الفنية بأن زبيد، رغم كل ما نالها من تجفيف وتيبيس وزحزحة كاملة عن صفتها كأهم مراكز العلم والثقافة في تاريخ اليمن، لا تزال فيها عروق تنبض بدماء معطاءة.

ولد الشاعر يحيى عوض محمد الحداد، في مدينة زبيد سنة 1942، وتلقى تعليما نظامياً وصل به إلى الصف الرابع الابتدائي، قبل أن يلتحق بالمدرسة العلمية في جامع الأشاعر، حيث كان من شيوخه فيها أحمد علي السادة وعبدالله بن زيد المعزبي. تتلمذ أدبياً وإبداعياً على الشاعر الكبير عبدالله عطية، وارتبط كثيراً بخاله قاسم عمر محرقي، حتى نسب إليه وعرفناه نحن بلقب "المحرقي" لا بلقب "الحداد"، ومن خاله تعلم مهنة المحاماة، فقد كان خاله يمارس الوكالة في المحاكم للمتخاصمين. ويدل ما كتبه المؤرخ عبدالرحمن الحضرمي في كتابه "الحركة الأدبية في تهامة 1948-1990"، أن الرجل كان من ذوي النبوغ المبكر، فقد برز في مهنة المحاماة، و"أجاد ممارستها"، وخبر خفاياها وخباياها "حلاً وتعقيداً أثر على نفسيته"، كما يقول الحضرمي. وكان نبوغه في المحاماة يتوازى مع نبوغه الشعري، وتأهيله الثقافي والعلمي، ليكون مدرساً بمدرسة الفوز بزبيد، على شروط التعليم في ذلك الوقت، لا على شروط التعليم اليوم. كل ذلك وهو يداحف الـ17 من عمره (حصل في ما بعد على معادلة من وزارة التربية والتعليم بليسانس في علوم الشريعة الإسلامية واللغة العربية).

وسمات يحيى عوض التي يعبر عنها ذكاؤه في التحصيل العلمي والثقافي، ونبوغه الشعري المبكر، لا تنفصل عن سمات أخرى سترتبط برحلته في الحياة والإبداع والنضال الوطني والجهاد التربوي. وأهم ما أقصده هنا سمتان، هما: الحدة والميل إلى المواجهة، فقد لازمت تكوينه الأول فلتات تمرد ووعي ثوري تقدمي طامح، وكان في أوج سن المراهقة حين فر إلى عدن هارباً من أمر اعتقال أصدره في حقه نائب الإمام آنذاك، بتهمة الشيوعية. وهناك تعرف على مجتمع ثقافي أكثر انفتاحاً واتصالاً بالعالم، وانتخب عضواً في الهيئة الإدارية للاتحاد اليمني، التي تشكلت بعد انسلاخها عن قيادة الزبيري والنعمان، إثر الحركة التي قادها علي محمد الأسودي، والشاعر علي عبدالعزيز نصر، وزملاؤهما ممن كانوا يؤسسون لحزب القوى الشعبية. كما مارس التعليم في إحدى المدارس العدنية، مدة تزيد عن سنتين، قبل أن يعود إلى زبيد نهاية عام 1961. وبعد أقل من عام، وصل إلى صنعاء على رأس وفد من أعيان ومشائخ زبيد، لمساندة التغيير الذي استجد بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962، ودوى صوته بقصيدة أمام الرئيس عبدالله السلال، فأصدر أحمد المروني، وزير الإعلام آنذاك، توجيهاً بضمه إلى فريق المذيعين في إذاعة صنعاء، لكنه لم يمكث فيها أشهراً حتى عاد مرة أخرى إلى زبيد.

الملاحظ هنا أن الشاعر يحيى عوض لم يصمد طويلاً في عدن حين ذهب إليها سنة 1959، على ما توفره عدن وقتها من ميزات مثالية لمبدع طامح مثله. كما أنه لم يصمد طويلاً في صنعاء بعد انضمامه للثوار، وعمله مذيعاً بالإذاعة سنة 1962، على ما كان يمكن للإذاعة أن توفره من شهرة له.. ناهيك عن الفرص الكثيرة في المناصب والأسفار والتكريس الأدبي التي يفترض أن يحظى بها نابه مثله في ذلك الوقت المبكر. والعلة في ذلك طبيعته التي تأنف الخضوع والمجاراة، وتأبى الضيم والظلم والإجحاف، وهذا هو سبب تركه صنعاء، وقد تعرض لظلم وعسف واضحين أثناء عمله في إذاعة صنعاء. كان عليه أن يغطي بثاً خارجياً للإذاعة صباح العيد، وقد أمره سعد غزال، مشرف الإذاعة المصري، أن ينتقل إلى بث خارجي بمجرد سماع ونانات موكب الرئيس عبدالله السلال، الذي يقع بيته خلف الإذاعة، ونفذ المهمة، فما إن سمع الونانات حتى أعلن للمواطنين انتقال البث إلى الجبانة، لنقل شعائر صلاة العيد التي تقام بحضور رئيس الجمهورية، وقام بالتغطية، ولكنه اكتشف أن صوت البث منعدم تماماً، ليس سوى وشوشة الهواء، وراح ومعه آخرون يتفقدون أجهزة البث، محاولين فهم المشكلة دون جدوى، فاضطر للاعتذار للمستمعين، وواصل بث البرنامج العادي. بعد ساعة فوجئ بجزمات عسكرية تهز الأرض وتدق أبواب الاستديوهات، وعرف أنهم جاؤوا بأوامر من الإدارة للقبض عليه (كان مدير الإذاعة وقتها الشاعر عبدالله حمران)، وصدمه أن في انتظاره قيدين حديديين، وأمراً صارماً: قيدوا أبوه...

وانفجر يحيى عوض ضاحكاً..

قال الآمر: لماذا تضحك؟

ورد يحيى عوض: لقد بح صوتي منذ الأمس، وأنا أقرأ الدستور اليمني المؤقت: لا جريمة إلا بنص ولا عقوبة إلا بعد محاكمة عادلة.. أريد على الأقل أن أعرف جريمتي..

وصاح الآمر: لا بد من القيد.. قيدوا أبوه..

تم تقييده وأودع السجن. وبعد أسبوع استدعاه الشاعر عبدالله حمران، ليعتذر له، فقد صادف لحظة انقطاع البث الخارجي صباح العيد، اكتشاف محاولة انقلابية على الرئيس عبدالله السلال، وساد الاعتقاد عند القيادة أن المذيع يحيى عوض قطع البث عمداً لاشتراكه في تلك المحاولة. لكن الشك في عوض تبدد بعد أن عرفت الإدارة أن ميكرفون الإذاعة كان مربوطاً بخط تلفون مقطوع، وأن لا دخل له في ما حدث. أما محاولات حمران للاعتذار له فقد باءت بالفشل، كما باءت بالفشل محاولات إقناعه بالبقاء مذيعاً في إذاعة صنعاء. وظل عوض يتندر بالحادثة كلما رواها، مقدماً لها بهذه الجملة المعبرة عن غرابة المفارقة فيها: دخلت إذاعة صنعاء بقصيدة، وخرجت منها بقيدين.

قبل مشاهدتي للشاعر وهو يروي قصته مع الإذاعة في برنامج وثائقي أنتجته قناة "السعيدة" عنه، كنت أحاول تفسير سبب تركه العمل في صنعاء، بغواية مدينة زبيد التي تصر دائماً على استعادة شاعرها، ثم أحاول تفسيره بانتمائه إلى تيار ما (يساري مثلا)، حتم عليه العودة للاستفادة منه في تنظيم واستقطاب عناصر جديدة. وكنت شبه متيقن أن معظم السبب يكمن في قلق الشاعر وحدّيّته وصداميته التي لا يمكن أن يتحملها منه الآخرون كما يتحملها منه أهل مدينته ومسقط رأسه، وأنه كان يشعر في صنعاء، كما في عدن قبلها، أن حدته التي تقوده للاصطدام بالآخرين، تكسبه عداوات، وتقوده إلى خوض صراعات قد تكون مؤذية، لأنه بغرارة سنه –وقتها- يخوض صراعاته بعيداً عن روافعه الاجتماعية، عريّاً من ظهر يحميه، ومن مكانة في المكان يستجنّ بها.

كنت أضع تلك الاحتمالات دون معلومات تؤكد أو تنفي، وهذه إحدى مآسي كسلنا حيال التوثيق، فلطالما التقيت بالأستاذ يحيى عوض، خلال السنوات الممتدة بين 1997 و2010، دون أن أفكر في الانفراد به ساعة من زمن، أسجل فيها منه ما يفي بغرض الكتابة عنه، وقد جاء وقت الكتابة عنه بعد أن حال مرضه دون إمكانية الاستيضاح منه.



***

لكن جوانب أخرى كثيرة من حياة الشاعر الكبير، تبقى خافية، يجرني خفاؤها إلى القول مرة أخرى: لا معلومات تؤكد أو تنفي، لكني أقارب وأتأول منطلقاً من خيوط واهنة أوردها المؤرخ الحضرمي في ترجمته لعوض، ومنها نفهم أن مكانة أستاذه الشاعر الكبير عبدالله عطية، كانت مثار إعجاب، ومثل إعجاز له، وأنه كان يطمح لتجاوزه. وهنا يجب التذكير بأن اللحظة التي انبثق فيها وجود يحيى عوض الإبداعي والاجتماعي والنضالي، كان أستاذه عطية يجلس على عرشين في زبيد: عرش الزعامة الشعرية والثقافية والريادة في مجالات التنوير والتحديث، وعرش المكانة الاجتماعية والوظيفية والحال الميسور. وهذا موقع وصل عطية إليه بعد رحلة شاقة تميزت بالعصامية والدأب والمثابرة والصبر والاجتهاد. ومعنى هذا أن مزاحمته في مكانته الرمزية أدبياً وثقافياً واجتماعياً، ليست أمراً سهلاً بمقدار ما تدل على طموح مميز عند من يفكر فيها، وهو طموح يجب أن يعطى حقه من التقدير.

وفي ظني أن حدية عوض، واصطدامه بالنظام الإمامي، ثم هروبه إلى عدن، وبعدها انضمامه إلى ثوار سبتمبر، واشتغاله في إذاعة صنعاء.. يمكن قراءتها في سياق ما كان يموج به الوضع اليمني العام في ذلك الوقت، وينخرط فيه المبدعون -من مناطق اليمن المختلفة- شعراً وممارسات ثورية. كما يمكن قراءته بوصفه ممكنات كان يلجأ لها عوض من أجل لفت نظر زبيد إليه، وإشعارها بأنه يمكن أن يكون قطباً في المدينة كأستاذه. حتى انتماءاته الأيديولوجية في عوالم اليسار، يمكن أن تقرأ بالمثل، وعلى نفس المنوال، دون أن تنفي القراءة الأخرى. وإذا كان عوض حصل من زخم عوالمه الشعرية على أجنحة جعلته يضارع أستاذه إبداعياً، ويتجاوزه حداثة، بل ويتفوق عليه شعبية وجمهوراً، فإنه كان يحاول من خلال المتكأ الأيديولوجي، أن يشكل دارة استقطاب يتوسع بها حضوره الاجتماعي والسياسي، بما يؤهله ليكون منافساً لأستاذه، لكن الصراع في بعده الخاص بالنفوذ الاجتماعي والسياسي، لم يكن متكافئاً، فقد كان عطية رجلاً محنكاً، وكانت علاقاته أوسع، ومكانته أكثر رسوخاً. وقد ردّ الحضرمي ذلك إلى أن يحيى عوض "لم يحدد نوعية مسيرته كما حددها أستاذه بعد تجاربه". وإذا صح أن رأي الحضرمي يعبر عما شاع بين أهل زبيد من وجهات نظر في صراع الرجلين، فإن معنى كلامه يذهب إلى قلق عوض وتقلباته وحدته وصداميته، مقابل ثبات عطية ومثابرته على مشروعه.

لكن الصراع نال من يحيى عوض، وتحول عنده، كما عند أستاذه، إلى نوع من العناد، كما نال صراع الرجلين من زبيد أيضاً، وهذا ما عناه الحضرمي حين قال: "فازداد تعقيداً -يقصد يحيى عوض- أدى إلى صراع مستمر مع أستاذه، كل يريد أن يكون (أنا)، لم تستفد منهما زبيد سوى التمزق والشتات بين الشباب".

ولعل حدة عوض كانت دائما تحول بينه وبين التواؤم مع المحيطين به في كل حالاته، سواء ما يذكره الحضرمي عنه، أو ما استنتجناه من عدم بقائه في صنعاء أو عدن. فبعيداً عن صراعه المباشر مع أستاذه عطية -وإن كنا نستبعد أن يكون ذلك بعيداً بالفعل- فقد رأس عوض نادي السلام الرياضي والثقافي في زبيد، قال الحضرمي: "وسرعان ما حدث انشقاق بينه وبين الإداريين والأعضاء، أدى إلى التمزق".

وفي زحام الصراع مع أستاذه على مدى عقود الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، اشتغل يحيى عوض منذ سنة 1964، تربوياً وموجهاً لمدارس زبيد وبيت الفقيه، ثم موجها لمدارس زبيد فحسب، وعضوا في الحزب الديمقراطي الثوري اليمني، وفي السبعينيات كان عضواً في الهيئة الإدارية للتعاونيات، وعضوا في المنظمة القيادية للحزب الاشتراكي اليمني بمحافظة الحديدة، وفي الثمانينيات كان مؤسساً في المؤتمر الشعبي العام.





أما على الجبهة الأكثر اتقاداً في صراعه مع أستاذه، وهي الجبهة التي تمثل القيمة الاعتبارية الأعمق لوجوده، فقد ساهم عوض في الاعتمالات الأولى للتفكير بإنشاء اتحاد وحدوي للأدباء والكتاب اليمنيين، حسب منشور في صفحته على "فيسبوك"، بتاريخ 20 مايو 2013، ثم ساهم فيه عضوا مؤسسا وعضوا في المجلس التنفيذي، كما يقول تعريف به على الغلاف الأخير من مجموعته الشعرية الوحيدة "هو الحب"، ثم أميناً للحقوق والحريات في الأمانة العامة 2005-2010، كما نعرف جميعاً. وكانت دورات صراعه مع أستاذه على المكانة الأدبية، تبدأ من المقايل، وتحتدم في هيجانات المهرجانات الوطنية والأمسيات والفعاليات المختلفة التي كانت تقيمها المراكز الثقافية والأندية الأدبية في زبيد، وقد تمتد إلى خارجها. وبإمكاننا أن نتصور الاحتفالات التي كانت تقيمها مدارس زبيد في مناسبات تخرج دفعات حملة الشهادة الابتدائية، بعد ثورة سنة 1962 مباشرة، والتي كان يطلق عليها "يوم العلم في زبيد"، وكيف كانت تتحول إلى معارك تستنفر فيها كل طاقات الرجلين إبداعاً وإلقاءً من أجل تأكيد الذات ومكانتها، والنيل من الآخر.

غير أن الطرق لا تفترق بالمبدعين الكبيرين طوال الخط، يذكر الحضرمي في كتابه "تهامة في التاريخ"، أن عوض حين ترك العمل الإذاعي في صنعاء، وعين موجهاً بالتربية والتعليم في زبيد، استخرج لأستاذه عطية قراراً بأن يكون مديراً لمدارس زبيد. وهذا يدلّ على أن الصراع بينهما كان في بداياته، أي في مرحلته الناعمة التي لا نعدم أن نجد لها أشباهاً ونظائر في أماكن أخرى، كان يحلو للبردوني أن يوصّف علاقة شوقي بحافظ، أو العقاد بطه حسين، أو أم كلثوم بعبدالوهاب، أو حتى علاقته هو بالمقالح، بكونها "ود ينطوي على كراهية، أو كراهية تنطوي على ود".

حتى بعد تواتر الصدامات بينهما، ظلت هناك قواسم تجمعهما، خاصة حين يتعلق الأمر بالشأن الوطني العام، ففي هذا الميدان كثيراً ما وجدا نفسيهما "في الهم شرق"، أو "في الهوى سوا"، أو كما قال الشاعر إسماعيل مخاوي:

في سورة الابتلاء المر منزلة

وفي المعاناة أنداداً وأشباها

جمع المعتقل بينهما سنة 1965، في الحديدة، بسبب انخراطهما في نقد استمرار الحرب، وسجنا معاً في حركة القوقر المطالبة بحقوق التهاميين، سنة 1967، رغم أن سياق ما يذكره الحضرمي عن الحدثين كليهما كان يُظهر عطية أطول باعاً في الفعل والمبادرة، بحكم وزنه ومكانته السياسية على الأقل -كتفسير عام- وبحكم وقوف عوض منه موقف التلميذ أيضاً.

ذكر الحضرمي في كتابه "تهامة في التاريخ"، أنه إثر خروج الشعراء عبدالله عطية، وعلي سعد الحكمي، ويحيى عوض، من السجن، سنة 1965، سأل عوضُ عطيةَ: هل ستقول شعراً بمناسبة عيد الثورة؟

وجاء رد عطية فورياً:

جلالها للمعاني لا ولا الكلمُ

أوحت إلي ولكن هذه العظمُ

فيم التساؤل هل لا زلت شاعرها

وملء جنبي هذا الشدو يضطرمُ

ذكرى يقدسها شعبي أعظمها؟

إذن أنا صخرة صمّا، أنا عدمُ

ظنوا البلابل لا تشدو إذا جرحت

أحلى الأغاريد ما أوحى به الألمُ

إلى آخر القصيدة التي وصلت أبياتها 44 بيتاً.

وهو جواب يدل على تفريق عطية بين انحرافات السلطات الثورية، وبين الثورة كفكرة مثالية أتاحت إمكانيات للتغيير، وتحتاج مساندة المؤمنين بها كي تتغلب على محاولات المتسلطين الجدد حرفها عن مسارها، وذلك ما تؤكد عليه الأبيات التالية:

فيم التساؤل يا ابن الشعر عن أدبي

غيري بمنعرجات الدرب يصطدمُ

الشعب أعلنها حراً وأطلقها

قذائفا ضد من عاثوا ومن ظلموا

وهو الذي سوف يحميها مكاسبه

كي لا يعيث بها مستهتر قزمُ

في حين يدل سؤال عوض على موقف يربط شرطياً بين تجربة المعتقل التي آلمه بها النظام الحاكم، وبين الثورة التي يحكم باسمها ذلك النظام، وهو ربط يعيدنا إلى سمة الحدية في شخصية عوض، وهي حدية ترى أن ما عاناه مع رفاقه في المعتقل، لا يدل على انحراف النظام الحاكم باسم الثورة فحسب، بل يدل على انحرافها هي أيضاً. ولعل هذا ما أكدته تجارب السنوات اللاحقة، ولم يتخل عوض عن الهجس به، فحين خاطب عوض الشباب 1966، بقصيدته "رسالة جريئة"، كان يعبر عن ذلك المعنى ضمن مضامين أخرى استحرت بها لواعجه:

سواي على التضليل والدجل أقدر

وغيري بتزييف الحقائق أخبر

تعودت أن ألقى المواقف واضحاً

كوجه النهار الصحو لا يتغير

أيغفر لي شعبي؟ أيمنحني الرضا

ضميري؟ وقد باركت ما بت أنكر

فلم نأتِ كي نعطي الفساد ولاءنا

ونسجد إكباراً غداة يزمجر

ولم نأتِ كي نضفي على الليل حلة

الصباح وملء الليل بغيٌ ومنكر

مع ذلك، وبغض عن تباين موقفي الشاعرين من الحدث، واختلافهما في فهمه وتفسيره، فإن توجيه عوض السؤال لأستاذه يمكن فهمه كمحاولة للاسترشاد برأيه، ومعرفة تأثير التجربة على نفسه. كما يمكن فهمه بوصفه محاولة استفزازية تؤكد على ما بين الرجلين من خلاف في الرأي والرؤية. وفي هذه الحالة يمكن قراءة الموقف بينهما بوصفه حلقة من حلقات الصراع الذي يتبدى صريحاً حينا، ومموها حينا آخر. وهذا كثيراً ما يحدث بين الأساتذة الكبار وتلاميذهم النابهين، وكان يحدث بين شيوخ التصوف ومريديهم المميزين (شمس الشموس أبو الغيث بن جميل وتلميذه الباهوت أحمد بن علوان).

وبسبب غياب الرواية لموقف مشابه يضيء ردة فعل الرجلين على ما نالهما في الحركة الاحتجاجية المعروفة بحركة القوقر التي قام بها أبناء تهامة سنة 1967، فإنه يتعذر قراءة العلاقة بينهما من خلال الحدث بشكل واضح. غير أنه يمكن القول إن يحيى عوض كان جزءاً حياً من وقودها، لكن عطية كان من صناعها، وأحد قادتها، وعبارة الحضرمي في كتابه "تهامة في تاريخ" تفصح عن ذلك فيما هو يترجم ليحيى عوض: "وسجن في حركة 1967 التي قام بها محمد يحيى منصر، مع عطية وعلي سعد، ومجموعة من شباب بيت الفقيه والحديدة".



***

بعد سنة 1967، سيفترق خطاهما على نحو واضح. سيزداد تحقق عطية من خلال قوته ومناصبه في زبيد، ومن خلال علاقته بالسلطة ورجالها في صنعاء، وتحالفاته مع القوى التقليدية ذات النفوذ الواسع في تهامة، وكل ذلك سينضاف إلى حضوره الأدبي القوي الذي راح يتكيف وفق ظروف المرحلة ومقتضياتها التي يجدها مقنعة له ومستجيبة لقطاع غير منكور الحضور من جمهوره في زبيد وخارجها، وسيحصل على التقدير الرسمي بنيل وسام الآداب والفنون من رئيس الجمهورية سنة 1989.

وعلى خط موازٍ، سيتبلور عوض شاعراً كبيراً واسع الشعبية، تلهج ألسنة الناس بأشعاره المستجيبة لأوجاع المكدودين والمقهورين، وأحلام الشباب الطامحين، والمعبرة عن السخط على الأوضاع والحاكمين، والمستلهمة لمعاناة المناضلين من أجل وطن أجمل وغد أفضل. وهذا، إلى جانب تطور تجربته في اتجاه الحداثة شكلاً ومضموناً، ناهيك عن سماته الشخصية، جعله مثالاً رائعاً لأكثر شعراء زبيد الذين جاؤوا من بعده، فقليلاً ما تحاشت تجربة تالية الاستفادة من تجربته بشكل أو آخر. وكان نضاله ضد عنجهية المتسلطين، والتزامه بقضايا الناس، واستعداده الدائم لدفع الثمن، يجعله ملهماً حقيقياً للشباب. وفي واحد من "ثلاثة مقاطع أوحتها زنزانة السجن المركزي للأمن الوطني بالحديدة عام 1982"، يصور يحيى عوض بشكل دقيق ما كان يعانيه المعتقلون السياسيون من صنوف التعذيب والتدمير النفسي، لكنه يعدها صلاة مميزة الطقوس:

ويا أحباب

خارج هذه الجدران

أسعدتم مساءً واقرأوا أم الكتاب

ولا تصلوا قبل أن آتي

فإن السجن علمني صلاة لم تصلّ بعد

صلاة تبتدي في الساعة الأولى

من النصف الأخير من المساء

وتنتهي عند الصباح

على صدى وقع السياط

ورعشة الأجسام

تحملها مقوسة الظهور

تلاصق الركب الذقون

وسائل الصلب الذي ابتدعته

آخر بربريات الزمان الصعب

ولعل صموده وتجليات روحه الإبداعية في تلك الظلمات، وعدم انحنائه لوسائل الإخضاع المختلفة التي تناوبته، هي ما جعله هدفاً لحادث سير غامض بتاريخ 3/8/1983، كاد يودي بحياته، وظل أياماً إثره لا ينطق، ولا يعرف أحداً، قبل أن يستقر شهراً في مستشفى الثورة بصنعاء، لينقل من ثم إلى ألمانيا مرتين للعلاج. وقد فاحت من الحادث شبهة محاولة للتصفية، وثارت حوله تساؤلات كثيرة، حسب ما أورده الحضرمي في كتابه "الحركة الأدبية في تهامة". واستعاد المناضل العتيد صحته بعد معاناة طويلة زادت على العامين، فإذا به يَزُوْكُ ويتحدى كما كان:

لا تقولوا هد الزمان قواه

لم يزل بسمة الضحى ورواه

لا تقولوا تخرمته الليالي

فالليالي في قبضتيه أماه

لا تقولوا خبا بريق أمانيه

وشدت إلى الأسى رئتاه

لا تقولوا ما زال يلتحف الغيم

كنسر لم تنعطف قدماه
#من كتابي ( ملامتية ). الصادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر في القاهرة ٢٠١٨م