كتابات وآراء


الثلاثاء - 23 نوفمبر 2021 - الساعة 10:58 م

كُتب بواسطة : فكري قاسم - ارشيف الكاتب



تزوجت خالتي سنة 1987 واستقر بها المقام بعد شهر من الزفاف في السعودية نظرا لظروف زوجها الذي يعمل سائق كثير السفريات ويغيب كثيرا عن البيت ويتركها لوحدها ما سبب لها الضجر والإحساس بالوحدة.
ومرت سنتين هناك وهي على هذا الحال دون أن تنجب مولود يؤنس لها البيت.
قبل أن يعود زوجها بإحدى المرات من سفرية إلى افريقيا مصطحبا معه ببغاء افريقي صغير ريشه ملون مطروح في قفص انيق اعطاه لخالتي هدية تؤانس وحدتها وتتسلى به.
فرحت به خالتي وسمته "محبوب"وامضت معه سنتين في صحبة ولطف وعلمته الكلام حتى أصبح ببغاء فصيح يهدر طول الوقت يردد كل ما يقال له بخفة ومرح.
ونست خالتي معه وحدتها واستأنست به وبوجوده واصبح محبوب فيما بعد جليسها اليومي وصديقها الحميم وطفلها الذي تعتني به بمنتهى اللطف.
قبل أن تندلع حرب الخليج سنة1991 ويقدر لخالتي العودة هي وزوجها ومحبوب للاستقرار في البلد .
ومحبوب إسم على مسمى لببغاء كبير الحجم ارياشه ملونة ولسانه فصيح مع كل من يجابره وصوته طروب؛ زقع؛ مرح راقص يتحيلا لنطقه كل من يسمعه يتكلم .ويحبه كل من يتعرف عليه.
وكان بالنسبة لكل من يشاهده من أهالي الحارة أعجوبة نادرة.
وبمرور عام من عودة خالتي وزوجها انجبا مولودهما الأول ولد بكر وبمرور العام الثالث انجبا المولود الثاني وكان أي واحد يسأل خالتي :
- كم معك جهال؟
لاتنسى محبوب من الحسبة وتقولهم :
- ثلاثة.
ومحبوب في حسبتها بين الناس مولودها البكر الذي تعتني به بشكل فائق وتعتني بمأكله ومشربه وبمقامه الرفيع في القفص .
وبالنسبةلزوج خالتي كان محبوب فخره الكبير كببغاء نادر تعود أصوله إلى سلالة أفريقية نادرة في العالم ولايقتنيها غير الأمراء.وحصل عليه هدية من أمير سعودي كان زوج خالتي يعمل سائق معه في الدمام.

بعد 5سنوات من العودة إلى البلد والإستقرار في الحارة توفي زوج خالتي وأصبحت خالتي أرملة تعول ثلاثة.
ولد وبنت ومحبوب الطائر الذي كان قد كبر هو الآخر داخل القفص كواحد من أفراد العائلة.
وكانت ظروف الخالة قد إستائت والحمل فوق ظهرها صار ثقيل كأي أرملة مات زوجها وخلف لها تركة من الأعباء في بيت بلا ضمار .

سنة 2005 تغيرت أحوال محبوب الراقص المرح واصبح في القفص ببغاء متنرفز كثير الصراخ وماكوده ينتف ريشه ولا يتقبل الهدار مع أحد حتى مع خالتي نفسها واستمرت حالته لأشهر متواصلة حتى نحف جسمه وخف ريشه وبان جلده وقالت خالتي بإنه " امترع" نتيجة عين والعين حق وهات ياتطببب شعبي فوق راس محبوب .
مره تفتح فوق رأسه قرآن طول اليوم . مره تحممه بماء زمزم. ومره تتصل بصاحبتها العرافة :
- امانه ذرعي لمحبوب .
ومافيش فائدة ؛ حالة محبوب في تدهور مستمر وارياشة تتطاير ملان البيت ما استدعى الأمر بخالتي أن تأخذه إلى طبيب بيطري يشوف ماله ولمو مسوي بنفسه كذا وايش هو العلاج؟
الطبيب البيطري بعد أن كشف عليه تحت فوق وجا له من كل الجهات ؛ تبين له فيما بعد أن محبوب مصاب بالإكتئاب نتيجة الوحدة القاسية التي عاشها لسنوات طوال من عمره بلا شريكة تؤانسه المقام في القفص !
- وماهو علاجه طيب ؟
خالتي سألت الدكتور وقالها :
- مابش علاج غير تزوجوه بأنثى ببغاء من نفس هذا النوع.
خالتي شلت محبوب معاهاوسارت به سوق الطيور تدور له على عروسه بنت حلال من نفس الفصيلة وقالوا لها أن هذا نوع نادر ولا يتواجد إلا في افريقيا أو في بعض البيوت الثرية التي تهتم بتربية الطيور النادرة !
- طيب وإذا اني اشتي اطلب له مره تناسبه من هذا النوع الأفريقي كم شيكلف الموضوع منسب يرسلوها لليمن؟
خالتي تسأل أحد باعة الطيور في السوق وقالها :
- شيكلف حوالي ثلاثمائة وخمسين ألف ريال !

روحت خالتي ساع المصروعة تهم وتندب حظها ومن اينه تدي 350 الف ريال وظروفها زي الزفت وكل الذهب الذي معاها بالكاد يجيب مائتين الف ريال وهي أرملة بين الناس وعليها مسؤوليات والتزامات معيشية كثيرة؛ وكيف تعمل؟ وأين تسير بروحها.
طننت لها يومين ورجعت لا عند الطبيب البيطري تشوف له لو في حل ارخص وانسب أو زواجة عرفي أو مسيار أو أي شيء من هذا القبيل المهم يتعافى محبوب ويخرج فيسع من حالة الإكتئاب المتزايدة.
البيطري أكد عليها وقالها انو مافيش أي حل غير أنها إما أن تزوجه وفق التقاليد الافريقية. أوتبيعه لأي ميسور عنده هذا النوع النادر من الببغاوات وجن جنونها وكانت تبكي له وتقول :
- ابيعه؟ ومنو يبيع ابنه ؟ وكيف ابيع ابني ؟!
في الحارة والكل قالوا لها:
- بيعه واستفيدي من قيمته أحسن ما يموت وهو على هذه الحالة وتعدمي الزلط وتعدمي محبوب .
- كيف ابيع ابيع ابني ؟ انتم مجانين؟ بو احد يبيع ابنه !

تنقلت خالتي من بعد ذلك بين بيوت عدد من الأثرياء في الحواري القريبة تسألهم لو معاهم ببغاوات من نفس النوع حق زواجه لإبنها محبوب المعلول في البيت ولا لقيت له مره.
وكان الموضوع بالنسبةلها محنة حقيقية أتعبتها نفسيا وشغلت تفكيرها وجعلتها في بكاء دائم على محبوب وعلى ارياشه الجميلة المتطايرة في كل زوة من البيت ولم تيأس.
جربت توسع له القفص بشكل مضاعف مرتين عن مساحة القفص السابق الذي يعيش أوقاته فيه ولكن بلا فائدة.ظل الإكتئاب ملازم له بشكل متصاعد كل يوم أكثر من الثاني ولم تيأس .
جربت تغالطه ودخلت له للقفص دجاجة رقشاء يتواله معها يمكن يحبها مع الوقت ؛ يمكن يلاقي فيها شريكة حياة من الحاصل يجزع بها وقته لوما يفتح الله.
ومافيش فائدة.
هيأت له في القفص الأجواء الرومانسية المناسبة لملاقحة الدجاجةومافيش فائدة .
أطفأت عليه وعلى الدجاجة انوار الصالة وسرجت لهم فوق القفص جلوب أحمر ؛ وماعد خلت مخلوق يدخل الصالة لا يزعجوا محبوب وشريكة حياته .
ومافيش فائدة .
طحنت لمحبوب بين طعامه الخاص اللوز والزبيب منسب يشتد؛ ولااااا.
بخرته وعطرته وبخرت له الدجاجة وعطرتها له منسب يشتحط ويقع رجال .
ومافيش فائدة .
طرحت له جنب القفص مسجلة لا رأسه هو وفتحت له اغاني بأيقاع افريقي يمكن يتذكر فحولة الأجداد الأفارقة
ويهوش فوق الدجاجة المسخسخه له ؛ وهو ولاااا .
تفدت له خالتي زيما تتفدى أي أم لإبنها المريض منسب يأخذ الدواء وكانت تقوله :
- مله اني افدا لك يامحبوب ؛ قضي بالحاصل لوما يفتح الله ومالك إلا مره تطيب نفسك .
- أني افدا ارجلك يابني ؛ ارحم نفسك وارحمني؛ وارحم الدجاجة اللي قد نفسه شتفلت عليك .
وبرضه مافيش فائدة .
فشلت كل المحاولات وكان ببغاء مؤدب وابن ناس ماشي على السراط المستقيم ولا له في الدجاج ولا في الحرام ولا له في قلة الأدب وما يشتي من الدنيا إلا مره من نفس جنسه لو مابقي له في جسمه حتى ريشة واحدة .
وظل محبوب على حالته تلك مكتئبا لا صوت يردد الكلام ولا رقص ولا هدار ولا ريش يفتن الناظرين ومات المسكين داخل القفص بصمت دون أن يقرب الدجاجة التي وجدت نفسها فجأة أرملة في القفص من دون أن يلمسها محبوب أو يدحرها حتى دحرة واحدة ؛ قو بحق البخور على الأقل. وكان موته المحزن عند خالتي فاجعة كبيرة أثرت عليها نفسيا وظلت تبكيه لأشهر عديدة من بعد ذلك؛ وأي واحدة من النسوان في الحارة لما تسألها كيف مات محبوب ؟ وليش مات؟ جواب خالتي المعتاد :
- كان يشتي زواجة وماقدرت أزوجه ولا هو نفسه رضي يقرب الحرام.. الله يرحمه كان مؤدب زيادة!
وهات يابكاءوهي تتكلم عنه بين صحباتها في الحارة تماما مثلما تتكلم أي أم مكلومة عن ابنها الفقيد المرحوم المففور له شهيد الأدب الزائد.
...............
نقلا عن موقع صحيفة اليمني الأميركي