منوعات

الأحد - 08 ديسمبر 2019 - الساعة 10:58 ص بتوقيت اليمن ،،،

محمد الحمامصي

استقطبت القضية الفلسطينية خلال حقبة الثمانينات مقاتلين من شتى بقاع الأرض انتصارا لها ولما تمثّله من مبادئ. كان من بين هؤلاء سمير غطاس الباحث والسياسي المصري الذي أرّخ للمرحلة من خلال كتابه “في قبضتي.. صفحة من السيرة الذاتية.. عملية أسر ثمانية جنود إسرائيليين”، وهو شهادة حية على تفاصيل تلك الحقبة التاريخية الدقيقة. ولئن يبدو الكتاب في ظاهره سيرة ذاتية متعلقة بوقائع وأحداث ومواقف استثنائية غير أن صفحاته تتجاوز الخاص إلى العام، وتؤرخ لمراحل متعددة، وتكشف الكثير من الأسرار المسكوت عنها، من خلال جمع خيوط حكايات الثورة التي بقيت، ولظروف كثيرة، حبيسة في صدور أصحابها بما يمكن من فهم ملامح تلك المرحلة المهمة من مراحل النضال الوطني الفلسطيني وقياداتها التاريخية.

على مر تاريخها الطويل جذبت القضية الفلسطينية الكثير من المقاتلين العرب إلى صفوفها من كل حدب وصوب، وخاصة في سنوات عنفوانها في المرحلة اللبنانية. من بين هؤلاء سمير غطاس رئيس منتدى الشرق الأوسط للدراسات الاستراتيجية ومدير مركز مقدس للدراسات وعضو مجلس الشعب المصري، الذي يكشف عبر سيرته الذاتية “في قبضتي.. صفحة من السيرة الذاتية.. عملية أسر ثمانية جنود إسرائيليين”، وثيقة تاريخية فريدة مكتوبة بأسلوب سردي روائي، ضمّنها أسرار وتفاصيل أكبر عملية فدائية قادها لأسر ثمانية جنود إسرائيليين وأكبر عملية لتبادل الأسرى.

وقدّم  الكثير من تفاصيل العملية بالاستناد إلى وثائق تشتمل على صور نادرة لهويات الجنود الإسرائيليين الأسرى والتحقيق الذي أجراه معهم، والعديد من الأسرار الأخرى الموثّقة بالصور.

عرض غطاس في كتابه الصادر عن دار سنابل أبرز مراحل سيرته الذاتية منذ كان أحد أبرز قيادات الحركة الطلابية في مصر واعتقاله لخمس مرات من 1968 إلى 1977 ثم مرحلته كمناضل في الثورة الفلسطينية، وأبرز العمليات الفدائية التى شارك في التخطيط لها وقيادتها، إلى المحطة الأخيرة له كنائب برلماني فاز من الجولة الأولى دون إعادة في منافسة مع أكبر عدد من المرشحين في الانتخابات.

في مفتتح السيرة أوضح غطاس أسباب إطلاق هذا العنوان “في قبضتي” على هذا الجانب من سيرته قائلا، “من بين كل الوظائف التي عرفتها البشرية عن قبضة اليد، لم يكن يدور بخلدي حتى في أزهى أحلامي الرومانسية أن يكون في قبضتي ما كان فيها قبل مغيب شمس ذلك اليوم التاريخي 4 - 9 - 1982، في شبابي بدا على نحو لافت أن قبضتي تشق سبيلها نحو قدر غير قليل من التميز، فقبيل الهزيمة المروعة في عام 1967، انخرطت مع أقراني في المقاومة الشعبية في محبوبتي مدينة السويس”.

ويستطرد الباحث والسياسي المصري سرد روايته، “قبضت وقتها لأول مرة على السلاح الذي بقت الرصاصات محشورة في ماسورته كصرخة المظلوم المكتومة في حلقه أمام السلطان الجائر. وكان التحاقي بالجامعة في القاهرة هو القوة الجبرية التي حالت دون قبضتي وشرف الاستمرار في احتضان السلاح، لكن حنيني لهذا العشق البواح لم ينقطع إلا إلى حين، حيث عاودت بعده تلك العلاقة الحميمة، التي تعاش بالنبض ولا توصف بالكلمات، بين ضمة القبضة على السلاح وأول ضمة للوليد إلى صدر أمه، وبين افتراق قبضة اليد على السلاح في السويس عام 1967 ومعاودتها ثانية في لبنان منذ عام 1977 وحتى 1983”.




وأضاف “كانت قبضتي وأنا في مرحلة دراستي الجامعية لعبت دورها الجديد، الذي تراوح ما بين التلويح في المظاهرات التي شاركت في إطلاقها وقيادتها وما بين الطرق بهذه القبضة على أبواب وجدران زنازين الاعتقال التي كنت ضيفها السنوي تقريبا من عام 1968 إلى عام 1977”.

ويذكر أنه “سيكون لقبضتي هذه التي استخدمتها مرارا في الطرق بلا هوادة أو جدوى، على جدران الزنازين التي استضافتني داخل وخارج مصر، علاقة وثيقة الصلة بموضوعنا الأساسي؛ ‘في قبضتي’ ليست، بكل تأكيد، أول من تأمل علاقته بكفه أو قبضته، وتختزن ذاكرتي مشهد قبضة الملك أوديب، في رائعة سوفوكليس، وهو يلوح بها ويصرخ في ابنته إلكترا بأن تأخذه إلى كبير الآلهة”.

ولفت غطاس إلى أنه كان لجان بول سارتر عبارة فلسفية عن تأملات الإنسان لكفّ يده، وهناك أيضا مشهد مفعم بالدلالات والأسى كتبه الأديب والمناضل غسان كنفاني في روايته “رجال في الشمس”، وأبطاله يدقّون بقبضاتهم جدران الخزان الذي اختُبأوا بداخله في رحلة الهرب، قبل أن تعجز قبضاتهم عن مواصلة الدق ويموتوا احتراقا أو اختناقا.

ويبدو الواقع الإنساني أكثر ذخرا بما لا يقاس بتلك النماذج المتعددة والمتنوعة التي استخدم فيها البشر، ولا يزالون، قبضاتهم في التعبير؛ فرحا وحزنا واحتجاجا أو تأييدا، و ما تموّج به كل لحظة في الحياة من انفعالات أخرى تستدعي وتستوجب التعبير عنها بقبضة اليد الواحدة أو بكلتيهما.







وأضاف “الآن وبعد مسافة كبيرة من الزمن، ومع تقدّم العمر إلى حافة السبعين ربيعا تبدو الفرصة مواتية لمواجهة الأسئلة الإنسانية المستترة أو المسكوت عنها”، ومن بينها الأسئلة المتعلقة والمرتبطة بموضوعنا “في قبضتي”، وأعني بذلك مشاعر الأفراد والشعوب التي لا تجد حرجا أو تخفيه، وهي تمارس الشيء ذاته ونقيضه؟!

ثمة برزخ نجتازه وبالكاد نذكره أو نتذكره ونحن نعبّر بمشاعرنا في كلا الاتجاهين المتعاكسين؛ من الحب إلى الكراهية، ومن أن تكون مستغِلا أو مستغَلا، ومحتلا أو محتلا، و مضطهِدا أو مضطهَدا، إلى آخر القائمة التي لا تنتهي لمثل هذه الثنائيات المتضادة والمتعاكسة، والتي قد يكون كل منا عاش تجربتها ذاتيا، أو تعرّف عليها على نحو أو آخر بالمشاهدة أو القراءة، أو بالاستماع، أو بأي طريقة أخرى.

وأكد غطاس أنه ما إن أنجزت بالكامل أكبر صفقة تاريخية لتبادل الأسرى بين الفلسطينيين وإسرائيل، حتى باتت قبضتي فارغة من الجنود الإسرائيليين الستة الأسرى، الذين عادوا إلى ذويهم وأسرهم، لكن عقلي وذاكرتي شُحنا برصيد هائل من التفاصيل، والمنمنمات والصور والحكايات التى لم يتبق منها سوى هذا المشهد الأخير.

وأضاف “كنا احتفلنا في عمان مع أبوعمار، وأبوجهاد والشيخ ‘عبدالحميد السايح’ رئيس المجلس الوطني الفلسطيني، باستقبال الأسرى الفلسطينيين الذين جرى تحريرهم في صفقة تبادل ثانية كبرى مع الجنود الإسرائيليين الأسرى الثلاثة، الاثنين، الذين سلّمتهم مجموعتنا الفدائية لجماعة ‘جبريل’، والجندي الأسير الثالث الذي أسرته الجماعة بعد تدمير دبابته في البقاع عام 1982”.

واعتقدت أن الستار أسدل تماما على فصل النهاية فى هذه الرواية التاريخية، لكن المشهد الأخير الذي جرت أحداثه على مسرح العاصمة الهندية نيودلهي أرجئ لحظة اختتام هذه الرواية.

ويبيّن مع تتالي صفحات الكتاب الكثير من أسرار أبوجهاد وشخصيته، بحكم عمله والتصاقه به، مما مكّنه من الاطلاع على الكثير من الأسرار والأحداث المتعلقة به، الأمر الذي يجعل منه الصندوق الأسود لتلك المرحلة.

ويتحدث سمير غطاس أو محمد حمزة كما يناديه البعض، في الكتاب عن بدايات التحاقه بصفوف الثورة وعمله مع أبوجهاد عن قرب، ويقدّم معلومات هامة عن محمود بكر حجازي وفاطمة برناوي (أول أسير وأوّل أسيرة في الثورة)، ويكشف لنا عن عدد من المواقع الهامة التي تقلّدها في صفوف الثورة ومنها المسؤول السياسي لمكتب حركات التحرر الذي كان يتولى تدريب أغلب حركات التحرر في العالم، بالإضافة إلى توليه تأسيس وإصدار مجلة دراسات استراتيجية عسكرية، المجلة العسكرية الفلسطينية.

وقال غطاس “كنت دعيت للمشاركة في ندوة تنظّمها الأمم المتحدة، في العاصمة الهندية نيودلهي، التي كنت تواقا لزيارتها نظرا إلى تعلقي الشديد بتجربة الهند الديمقراطية. كان هناك عدد غير قليل من المشاركين في هذه الندوة من جنسيات مختلفة، وكان من بينهم محمد السيد سليم مدير معهد الدراسات الآسيوية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة، والذي توفي أثناء إعداد هذا الكتاب وعدد آخر من الأسماء المرموقة. وكان من بين الذين يمثّلون إسرائيل في هذه الندوة المحلل العسكري البارز زئيف شيف وآخرون”.




وأوضح أنه “على هامش الندوة بادرني ‘شيف’ بالسؤال عن أبوجهاد الذي يبدو أنه، بحكم تخصّصه، كان متابعا لصيقا له”، وفجأة سألني ‘شيف’ عن إصرار أبوجهاد على أن تتضمّن صفقة تبادل الأسرى التي جرت عام 1983 تحرير وإعادة أرشيف مكتبة مركز الأبحاث الفلسطيني الذي كان مقره في بيروت وقت الغزو الإسرائيلي.

 أوضحت له أننا تعلمنا من، ومع أبوجهاد أنّ للكتب والثقافة قيمة تكاد تماثل قيمة الإنسان نفسه، وقد تفوقها في بعض الأحيان والحالات.

 وذكرت له أنه عندما أصرّ أبوجهاد على تحرير وإعادة كتب مركز الدراسات التي نهبها الغزو الإسرائيلي لبيروت، بعد خروجنا منها كان في الحقيقة معنيّا برسالتين؛ واحدة داخلية للفلسطينيين أنفسهم للحفاظ على هذه المؤسسة (الثقافية ـ السياسية) الهامة، واحترامها بما يليق بها، والأخرى موجهة لكم في إسرائيل لتفهموا أكثر الجانب الإنساني (والفكري ـ السياسي) لحركة المقاومة الفلسطينية، والكفّ نهائيا عن إلصاق صفة الإرهاب بها، وإعادة نظركم في المفاهيم المغلوطة السائدة في تعاطيكم مع الشأن الفلسطيني، على نحو عام والشأن المقاوم على نحو خاص.

وختم غطاس “قبل أن يرد، كنت لاحظت علامات الدهشة الممزوجة باحترام مكبوت في مجمل حواري معه، ثم نطق بالعربية المكسورة “‘شابّوه’ (لنرفع القبعة) لأبوجهاد.. رغم أنه كان من ألد أعدائنا”.

كان هذا الحوار قد انتهى إلى لا اتّفاق، وكانت الندوة نفسها انتهت إلى نفس النتيجة. وبهذا المشهد الختامي أسدل الستار أخيرا على أحداث هذه الوقائع التاريخية، وهكذا تحوّل الجنود الإسرائيليون الأسرى في قبضتي إلى كتاب بات الآن في قبضة كل واحد منكم.