منوعات

الجمعة - 16 أبريل 2021 - الساعة 02:11 م بتوقيت اليمن ،،،

دمشق

بدت ملامح الموسم الرمضاني السوري الحالي متأثرة بمجريات ومآلات الأحداث السياسية الكبرى في المنطقة. فهي ليست مجرد حكايات يتم تصويرها وتقديمها للناس لملء فراغ زمني. إنما دراما متشعبة تقوم على منظومة معقدة من العلاقات السياسية والفنية والفكرية وبالطبع المالية.

وبات معروفا للجميع أن سنوات الحرب في سوريا والمنطقة أرخت بظلالها الثقيلة على الدراما السورية، وباتت الأخيرة في مهب تأثيرات التغيرات السياسية والمالية لبعض الدول وقنواتها العارضة، وهذا ما يفسّر تذبذب مسارات الإنتاج السوري في أشكاله المختلفة والمتنوعة بين الشامي والتاريخي والكوميدي والاجتماعي وغيرها.

حظ قليل
تهمين دراما البيئة الشامية على المشهد الدرامي السوري في الموسم الرمضاني الحالي، وهو الشكل الذي ينتقده الجميع من جهة ويعملون فيه من جهة أخرى عبر وجهات نظر مختلفة، مع تراجع واضح لدراما الواقع الاجتماعي الذي سجل حضورا قويا سابقا، لحساب البيئة الشامية المرغوبة تجاريا.

ومن الأعمال الاجتماعية التي تعرض خلال هذا الموسم الرمضاني يحضر مسلسل “على صفيح ساخن” الذي كتبه يامن الحجلي وعلي وجيه وأخرجه سيف الدين سبيعي، ويعالج الحياة المعقدة التي تعيشها أسرة في تحدياتها للظروف المحيطة بها. كما يقدّم جانبا من حياة المهمشين في المجتمع وهم عمال النظافة والزبالون الذي يؤدّي دور زعيمهم سلوم حداد. والعمل الذي يشارك فيه كلّ من سمر سامي وباسم ياخور وعبدالمنعم عمايري، سجلّ أيضا عودة الممثلة الجزائرية أمل بوشوشة إلى الدراما السورية بعد غياب سنوات.

كذلك يحضر مسلسل “خريف العشاق” تأليف ديانا جبور وإخراج جود سعيد، وهو عمل يحفل بسبر منعطفات اجتماعية كبرى تعصف بالتباينات السورية الحارقة عبر رصد حياة ثلاثة شبان يتزوجون من فتيات يختلفن عنهم طائفيا ودينيا، ليتابع المسلسل رصد تفاصيل حياتهم عبر ثلاثين عاما. ويشارك في العمل أيمن زيدان ومحمد الأحمد وصفاء سلطان وحسين عباس ولجين إسماعيل.

وبدورها أنتجت المؤسسة العامة للإنتاج الإذاعي والتلفزيوني السوري، لرمضان الحالي، ثلاثة أعمال أتت جميعها في الشكل الاجتماعي، منها مسلسل “بعد عدة سنوات” الذي كتبه بسام جنيد وأخرجه عبدالغني البلاط، ويحكي عن مصير صحافية تلجأ إلى أسرة هربا من الحرب ويرصد تفاصيل حياتها اللاحقة عبر خطوط متشعبة. وهو من بطولة ديمة قندلفت وعبدالمنعم عمايري وسعد مينة وندين تحسين بك ومحمد حداقي وروبين عيسى.

أما العمل الثاني، فهو “ضيوف على الحب” من تأليف سامر محمد إسماعيل وإخراج فهد ميري، والذي يسرد قصة مجموعة من الشباب الذين يسكنون في بيت عتيق، ويتابع المسلسل مسارات حيواتهم وأحلامهم. وهو من بطولة فايز قزق وشكران مرتجى وزهير رمضان وجيني أسبر وفادي صبيح.

وحمل العمل الثالث عنوان “دفا”، وهو من تأليف بسام مخلوف وإخراج سامي جنادي، ويحكي عن علاقات متشابكة تربط بين مجموعة من الشباب الذين ينشئون مقهى مع أحد المتنفّذين في السلطة فيقعون في العديد من المشكلات. وهو من بطولة كلّ من محمد حداقي وندين خوري ومحمود خليلي ولينا حوارنة.

وعبر سنوات طوال حظيت الدراما الاجتماعية السورية بمكان متقدّم لدى العاملين في القطاع، الذين وجدوا فيها منبرا فنيا جيدا لتنفيذ أعمالهم في الوقت الذي حقّقت فيه تجاوبا ترويجيا جيدا لدى القنوات العربية لاحقا.

وعديدة هي الأعمال السورية التي لاقت بعدا جماهيريا كبيرا على خارطة الدراما العربية، مثل “أهل الغرام”، و”نهاية رجل شجاع”، و”خان الحرير”، و”دائرة النار”، و”غدا نلتقي”، و”فوضى”، و”مسافة أمان”، و”دقيقة صمت”، و”أراك عصي الدمع”، و”شبابيك”، و”ما وراء الشمس” و”أسرار المدينة” وغيرها. وما كان ينافس الأعمال الاجتماعية السورية دائما وجود الكوميديا والبيئة الشامية التي كانت تتنامى باستمرار.

لكن الموسم الحالي حمل معطيات جديدة، تجلت في تراجع عدد الأعمال الاجتماعية والكوميدية أمام سطوة واضحة لأعمال البيئة الشامية التي تحضر بنصف مجموع الإنتاج الكلي.

فمع وجود ما يزيد عن العشرين عملا منتجا في سوريا، كانت حصة إنتاجات البيئة الشامية تسعة، وهي “الكندوش” و”حارة القبة” و”باب الحارة” في جزئه الحادي عشر و”بروكار 2″ و”العربجي” و”أولاد السلطان” و”سوق الحرير 2″ و”جوقة عزيزة” و”عرس الحارة”، والباقي من الأعمال تتقاسمه أعمال الكوميديا والبدوي والاجتماعي.

عالجت الدراما السورية عبر مسيرتها المواضيع الاجتماعية بكثير من الجدية، وقدّمت أعمالا سبّبت الكثير من الصدام والجدل في المجتمع السوري وحتى العربي، منها مسلسل “دقيقة صمت” الذي كتبه سامر رضوان وأخرجه التونسي شوقي الماجري في آخر أعماله قبل رحيله منذ عامين.

كما صارع مسلسل “ترجمان الأشواق” أجهزة الرقابة قبل عرضه في سوريا، وهو من إخراج محمد عبدالعزيز وتأليفه مع بشار عباس. كما تعرض مسلسل “شارع شيكاغو” لموجات من الصخب الإعلامي والاجتماعي لدى عرضه في الموسم الماضي.

وقبل كل ذلك تحدّى مسلسل “غزلان في غابة الذئاب” الحواجز والممنوعات وقدّم حالة صدامية اجتماعية حرّكت الرأي العام السوري والعربي سنة إنتاجه 2006، وهو من تأليف فؤاد حميرة وإخراج رشا شربتجي. وكان عملا هاما تحدّث فيه مبكرا عن الفساد الموجود في المجتمع السوري وطرق تناميه وخطورته، وهو الذي لاقى حينها الكثير من النجاح على المستويين السوري والعربي.

وفي العموم، لم تقترب الدراما الاجتماعية السورية من مناطق التوتر المجتمعي، وظلت إلى حدّ بعيد مراوحة في تقديم رؤية شبه حيادية تجاه مشكلات مأزومة تواجه المجتمع السوري، فقدّمت علاقات الحب الفاشلة والطمع والاستغلال واللصوصية ومشكلات التعليم والسكن والفقر، ونادرا ما اقتربت من مواضيع حياتية حارة وكامنة في المجتمع، مثل قضايا الفساد الكبرى وهجرة العقول والتعدّد الديني والطائفي والحالة الأمنية العامة وحقوق الفرد والمواطنة، وغيرها من المواضيع التي كانت تنهك النسيج الاجتماعي السوري في يومياته. لكنها كانت دراميا مسكوتا عنها.

وشهد إنتاج الدراما السورية تغيرات كبيرة، فالبداية كانت مع وجود التلفزيون السوري (القطاع العام) في عام 1960 عندما بدأ بإنتاج أعمال تمثيلية غير مسجلة، ثم تطوّر الأمر وبدأت بعض ملامح تدخل القطاع الخاص على الإنتاج التلفزيوني، التي بدأها عام 1980 داوود شيخاني مؤلفا ومنتجا مع مسلسل “بصمات على جدار الزمن” للمخرج هيثم حقي، ثم مسلسله الثاني “حرب السنوات الأربع” لذات المؤلف والمخرج، وقدّمت شركة “الرحبة” لهيثم حقي مسلسل “دائرة النار” (إنتاج 1988).

ومع بداية تسعينات القرن العشرين وجدت العديد من الشركات التي نشطت في تقديم الدراما السورية منها شركة “الشام” التي قدّمت أعمالا اجتماعية هامة، منها “الدوغري” و”أخوة التراب” و”يوميات مدير عام”، علاوة على الشركة السورية الدولية “سما الفن” التي قدّمت مسلسل “عصي الدمع” وقامت شركة “سامة” بتقديم العديد من الأعمال الاجتماعية ذائعة الصيت منها “أهل الغرام” و”ندى الأيام”. ولاحقا قدّمت العديد من الشركات الأخرى أعمالا اجتماعية عالية المستوى.

ولا شك أن التغيرات الجيوسياسية التي وجدت في العالم، بعد عام 2011 وضعت خارطة فكرية وسياسية جديدة في المنطقة العربية وجعلتها على صفيح ساخن. فحالة الحرب المستعرة والتقلبات السياسية والأمنية التي تحيق بالجميع غيّرت قواعد اللعبة، ممّا سبّب حالة من الانزياحات الفكرية والسياسية التي ظهرت آثارها على خارطة الدراما العربية والسورية.

ففي ظل وجود حالة الحرب في الداخل السوري والاستقطاب السياسي الذي فرضته، إضافة إلى خروج العديد من قامات الفن السوري نحو بلاد المهجر. وما رافق ذلك من آلية عرض الدراما السورية لدى العديد من القنوات العربية التي كان بعضها لا يرحب بهذا المنتج أصلا، لأسباب غير فنية. كل ذلك أدّى خلال أعوام 2011 وحتى عام 2018 إلى انحسار كبير في حجم إنتاج الدراما السورية، فكان عام 2017 الأقل إنتاجية بـ21 عملا.

لكن عام 2018 وما بعده حمل انتعاشا جديدا في الإنتاجات الدرامية السورية، فوصلت الحصيلة عام 2019 إلى 31 عملا قدّمت خلالها العديد من المسلسلات التي عكست أجواء المجتمع السوري.

وبعد سنوات الانحسار، أيقن المنتجون أن طبيعة المادة المقدّمة يجب أن تكون بعيدة عن المناوشات الاجتماعية والسياسية وما يمكن أن تولّده من صدامات، فالعمل الاجتماعي حين يدخل المناطق الحارة اجتماعيا أو سياسيا يصبح في مواجهة مباشرة مع أجهزة الرقابة الفنية التي يمكن أن تعطل العمل أو تلغيه تماما. والمنتج يفضل ألاّ يدخل في مواجهة مع أجهزة الرقابة لخطورة ذلك على مجمل أعماله اللاحقة.

ومخاطر الرقابة المحتملة ليست مع الداخل السوري فحسب، بل حتى مع رقابة الحكومات والقنوات العربية العارضة، فالمواضيع الاجتماعية قد تحمل في طياتها إسقاطات سياسية أو اجتماعية مختلفة أو متضادة مع غيرها، وهذا ما قد يولد انفجارات عاصفة في الرأي العام لدى جماهير القنوات العارضة أو حكوماتها، وبالتالي تكبّد الشركات المنتجة خسائر مالية هي في عنى عنها.

وهذا ما يجعل المُنتج عازفا عن الولوج في متاهات تقديم دراما نزقة أو شرسة تحاول تحريك الساكن أو المتردّي. ويبقى محافظا على تقديم مواضيع اجتماعية حيادية مكرّرة.

في المقابل، تمثل دراما البيئة الشامية طوق النجاة للمُنتجين، ففيها عوالم فنية جاذبة للجمهور، وهي التي تتناول في مجملها قصص حب وبطولات مفقودة في زمننا الراهن، والكثير من الحكايات الصغيرة المتعلقة بعنتريات الرجال وكيد النساء، ما يولّد لدى المشاهد حنينا إلى الماضي بزمانه ومكانه.

وهي التي تطرح حالة من التسلية المبنية على أحداث افتراضية غير موثقة، وبالتالي لا تصطدم مع أي فكر أو تيار أو سياسة، فالمنتج هو حكاية شامية لطيفة يمكن أن تحكيها أي جدة لأحفادها قبل النوم. فيستريح العمل من متاعب الرقابة والترويج متجاوزا حدود الدول والرقابة المفروضة على بعض الأعمال الدرامية المثيرة للجدل. وهذا ما يجعل هذا الشكل الفني مطلوبا من الجميع، المُنتج والعارض.

الدلائل تشير إلى أن هذا الشكل سيكون صاحب حضور أكبر في المواسم القادمة، نتيجة وجود المصلحة التي تحكم العلاقة بين أطراف الإنتاج والعرض وما بينهما في التنفيذ والمشاركة، بل إن الموسم الحالي قد أوجد صيغة جديدة في هذه الأعمال والمتمثلة في إنجاز أكثر من جزء واحد دفعة واحدة، كما هو الحال مع مسلسلي “الكندوش” الذي صُوّرت منه ستون حلقة، والأمر ذاته انسحب على “حارة القبة”، وهناك غيرها الكثير.

ومع تقدّم دراما دول الخليج العربي التي باتت تعرض في السنوات الأخيرة دراما اجتماعية تحمل هموم مواطنيها عبر نماذج متطوّرة في تقديم رؤى اجتماعية رفيعة المستوى، محقّقة حضورا جيدا على الصعيد العربي، وهي التي استفادت من تراكم الخبرات لديها بالاستعانة بقامات فنية كبيرة من مصر وسوريا ولبنان.

كل هذا عاد بالسلب على مساحات حضور الدراما الاجتماعية السورية على الشاشات العربية. وصار التنافس بينها وبين الدراما المصرية والخليجية كبيرا، فالقنوات الخليجية التي كانت تستقبل أكثر من مسلسل سوري أو مصري في موسم واحد، وأمام وجود منتج محلي جيد، باتت مكتفية بمسلسل واحد، ممّا يعني مساحات أضيق بالنسبة للمنتج الدرامي السوري أو المصري.

لكن صيغة الأعمال العربية المشتركة تمكّنت من تجاوز هذه المعضلة، فتشارك الفنانين العرب في العديد من الأعمال الدرامية حقّق نجاحات مبهرة. لكنها، وبالتوازي، ما زالت تحتاج إلى الكثير من الوعي والجدية للخروج من حالة الاستسهال في تناولها السطحي أحيانا، لبعض الموضوعات الحارّة والمأزومة التي تواجه المواطن العربي.