كتابات وآراء


السبت - 29 فبراير 2020 - الساعة 10:54 م

كُتب بواسطة : ا.د عبدالودود مقشر - ارشيف الكاتب


(إقرأ قصة البطل أبكر شرف كاملة لتعرف عظمة تاريخك المقاوم)

جهز الوالي التركي مصطفى باشا الصبري ليقمع ثورات القبائل والمقاومة التهامية اليمانية في صفر وربيع أول 1267هـ / ديسمبر 1850م - يناير1851م, فخرج متجهاً من الحديدة في خط مستقيم شرقاً نحو المراوعة وباجل ثم جنوباً. قال عاكش في (الديباج) :- " والسبب في وصوله إلى قرية باجل أنه انفصل من الحديدة بأجناده لتصليح الجهات اليمنية وانتهى سفره إلى زبيد ".

والمقصود أنه خرج للقضاء على مقاومة قبائل العبسية والقحرى والمناصرة والمجاملة والوعارية والرماة والزرانيق, ولكن قسوته وظلمه للأهالي وتغلغل حب الانتقام لمقتل توفيق باشا جعله في عيون المقاومين التهاميين هدفاً لهم.

هذا إلى جانب خروج شخصية بارزة في تهامة من اللعبة السياسية, وإعلانها الثورة ضد الأتراك, بل وتزعم المقاومة التهامية اليمنية وهي شخصية الشيخ أبكر شرف والذي تولى سابقاً أعمال بيت الفقيه من قبل الإمام المتوكل يحيى بن محمد, وبعد ذلك كان يعمل لصالح الشريف الحسين بن علي بن حيدر ملك تهامة , وكان شيخاً مقداماً.

وتقول قبيلة المجاملة أن الشيخ أبكر شرف كان من مشايخهم, ولكن المصادر العثمانية تذكر أنه كان شيخاً لقبيلة المناصرة، ويمكن ان يكون حكمهما وحكم مناطق كثيرة لأنه تحكى عنه القصص الكثيرة عن سيرته، وصمت عاكش في عدم ذكر سبب ثورته واكتفائه بقوله:-" لأسباب أوجبت ذلك " يثير التساؤل, ولعل السبب ما ذكر سابقاً من ظلم وقتل وتدمير أحدثه الباشا مصطفى صبري بدعوى القضاء على المقاومة التهامية.

والسبب المباشر لتجهيز مصطفى باشا تلك الجيوش انه عند وصول مصطفى باشا إلى الحديدة - كما يقول الحيمي - :- " أرسل للشيخ أبكر شرف شيخ الصنيف, فأبى عن الوصول إلى ذلك الباشا " ، والصنيف قرية تقع شمال شرق بيت الفقيه وشرق المنصورية.

سرد أحداث الثورة مختلفة بعض الشيء لدى كلاً من عاكش والحيمي المعاصرين لتلك الأحداث, فعند عاكش:- " انتهى سفره إلى زبيد, وبلغه خلع أبكر شرف صاحب الصنيف لطاعته لأسباب أوجبت ذلك, فكرّ راجعاً إلى بلدته, وهجم عليه على حين غره واستولى على بيت الشيخ أبكر واستباح قلاعه, وكان في تلك الوقعة إزهاق روحه هو وولده, وفوق مائة قتيل من قرية الصنيف".

أما الحيمي فيذكر أن الباشا:- " أمر من كان لديه من الأتراك في بندر الحديدة بالقدوم على ذلك الشيخ, وزعيمهم الباشا بيرم آغا, فعزموا, فوقعت المحاربة بين الفريقين وقتل من عالم العثمانيين نحو مائتين رجل, ومن أصحاب الشيخ أبكر شرف نحو مائة رجل, واستفاض العثمانيين على مطرح الصنيف, وقتل الشيخ أبكر شرف, وذهب مطرح الصنيف بما فيه" .
وتذكر المصادر العثمانية ومنها (تاريخ صنعاء واليمن) لأحمد راشد أن مصطفى باشا واجه :- " عصيان قبيلة المناصرة التابعة إلى بيت الفقيه الكائنة في سفح جبل ريمه مع شيخهم أبكر شرف, فقد أجرى الحركة ضدهم لأجل تأديب وتنكيل القبيلة المذكورة, فتحصن الشيخ المذكور في حصن متين في قرية الصنيف, وعند وقوع القتال سقط عدد من القتلى وتم احتلال الحصن المذكور كما قتل الشيخ وكثيراً من أفراد القبائل".

ويتضح أن الشيخ أبكر شرف كان له حصن منيع ومرتفع فوق أحد جبال تهامة وله موقع استراتيجي يطل منها على سهل فسيح به هيجه، فتبين مما سبق حسن تمركز وتنظيم القوات القبلية ومعها المقاومة التهامية اليمنية وهذا يدل على وحدوية المقاومة ضد الوجود التركي.

والملاحظ أن المنطقة التي كان من المفترض أن تمر فيها القوات التركية هي منطقة وعرة وهي (هيجة), ويعرّف التهاميون معنى الهيجة بأنها منطقة وسط وادي يمتلأ بأشجار ونباتات شوكية, ويكاد الشخص فيها لا يرى الشمس، وفيها تختبئ القبائل التهامية وتكمن ولا تجتازها الجيوش الغازية لبلادهم, لذلك كانت خسائر الاتراك فادحة خاصة بعد غدر قبيلة العبسية بالقوات التركية بعد ان أوهمتها أنها ستدلها على الطريق وانضمامها إلى المقاومة التهامية اليمنية, فكان انتقام الاتراك فظيعاً حيث أراد مصطفى باشا أن يثبت قوته وأن يرهب بقية القبائل، فعمل أعمالاً " استباح في ذلك ما حرم الله تعالى وجرت أمور ينكرها العقل والشرع" كما ذكر عاكش، وسكوته يدل على فداحة الانتقام, فقد ذكر الحيمي أنه بعد مقتل الشيخ " ذهب مطرح الصنيف بما فيه, وسبى الاتراك نساء ذلك المحل وأسروهن وذهبوا بهنّ إلى الحديدة وصاروا يبيعوهنّ كبيع الإماء" .
وذكر الكاتب الانجليزي بلايفير في كتابه (اليمن) أيضاً أن قوة " استطاعت أن تستولي على الصنيف بهجوم عاصف وذلك في يناير 1851م / ربيع أول 1267هـ وقد صاحبت الحصار أعمال غاية في القسوة وأخذ مائة وعشرين من الشخصيات المرموقة من سكان المدينة ونفوهم إلى كمران " .

فكانت الإهانة لكل تهامة وقبائلها بل لليمن قاطبة والعرب عامة ومحفزاً على الثورات ضد الاتراك, وعاملاً استغلتها المقاومة التهامية الشعبية, فأثارت المشايخ, وجعلت الشيخ علي بن يحيى حميده, وهو السياسي المحنك وأحد دهاة تهامة, ولعب أدواراً خطيرة خلال تلك الفترة في المنطقة, ومقرب من الاتراك، لكنه أقرب إلى الشيخ أبكر شرف, ينضم إلى المقاومة اليمنية, فأراد الانتقام لما فعله مصطفى باشا صبري, وعزز ذلك أن الباشا توجس خوفاً من الشيخ, وأراد اعتقاله فـ" بعد رجوع الباشا بيرم آغا من الصنيف, استقر في الحديدة ثلاثة أيام, ثم خرج هو والباشا المولى من السلطان والأتراك إلى مطرح باجل, حتى وصل هنالك, فأكرمه الشيخ علي حميده وأضافه...وبقي الباشا هنالك ثلاثة أيام, وأدركه المرض هنالك وتوفي في مطرح المراوعة, وحمل إلى الحديدة ودفن هنالك.".

ولاقى وفاته فرحة لدى التهاميين وعامة اليمنيين، فذكر عاكش أن " وفاته كانت يوم السبت شهر ربيع الأول لثلاثة وعشرين يوماً خلت منه / الخامس والعشرين من يناير1851م, وكان ابتداء مرضه بباجل وأوصل إلى قرية الخليفة وحمل إلى الحديدة فما وصلها إلاّ وهو ميت...كان موته فرجة لأهل اليمن لأنه صدرت منه أفعال غير معتاد صدورها ممن ولي القطر اليماني...وكانت مدته نحو أربعة أشهر " .

وأكد الكاتب الانجليزي جاكوب في كتابه (ملوك شبه الجزيرة العربية) عملية الاغتيال بقوله: أن " السم الذي يوضع في القهوة اختراع معروف جيداً في الجزيرة العربية, للتخلص من العدو والقضاء على الخصم, ففي عام 1850م, توفي صبري باشا الحاكم التركي لليمن في ذلك الوقت, وكان موته فجأة في باجل, بينما كان ينزل ضيفاً على الشيخ علي حميده, وقد قال العرب بسخرية إن القهوة لم تناسبه..!"، فلا يغيب عن الذكر أن عملية اغتياله بالسم كانت يوم السبت 23 ربيع أول 1267هـ / 25 يناير1851م في حين أن ارتكابه لمذبحة الصنيف كانت في يوم الخميس 8 ربيع أول 1267هـ / 9يناير1851م وهي مدّة زمنية يسيرة كان يمكن لهذا الباشا أن يدرك مدى خطورة ما أقدم عليه ولكنه لم يدر في خلده أن أقرب حلفاءه إليه هو الذي سوف يفتك به.

(مقشر، أ.د عبدالودود قاسم، حركات المقاومة والمعارضة في تهامة)