اخبار وتقارير

السبت - 19 أكتوبر 2024 - الساعة 10:11 ص بتوقيت اليمن ،،،

صدى الساحل - كتب: حسين الشدادي





في عمق مشهد الحياة، هناك لحظات تقف عندها الكلمات عاجزة، عاجزة عن الوصف والتجسيد، تكتفي بالانصهار أمام عظمة الإنسان الذي لا يخضع لأهوال الزمن ولا رهبة الموت.

وإن كان القدر قد كتب خاتمة لكل حياة، فإن خاتمة أبو إبراهيم، أو يحيى كما عرفه مقاتلوه وأحبته، جاءت لتكون درساً في الشجاعة والبطولة، درساً يتجاوز كونه مجرد نهاية رجل شجاع، ليصبح رمزاً لقصة لا تتكرر.

في ذلك اليوم الذي كان من الممكن أن يكون عادياً في ذاكرة الحرب، جاء المشهد الذي لن تنساه أذهان من شاهده أو سمع عنه.

طائرة تصوير تجوب أنقاض منزل مدمر، تبحث عن تفاصيل العدم لتوثق لحظات النهاية، لكن هناك في عمق المشهد ما لم يكن بالحسبان: رجل ملثم، يجلس على كرسي وسط الدمار، جراحه تنزف، ونظره معلق بالسماء.

هذا الرجل، كان يحيى، وقد كتب بدمائه كلمات لا يستطيع أعظم المؤلفين تصورها، ولم يخطر ببال أبرع المخرجين أن يختم قصة بهذه العظمة.

لم يكن الملثم ينظر إلى الطائرة التي ترصد لحظاته الأخيرة بعجز أو خنوع رغم النزيف، رغم الألم، لم تكن عينيه تشعان بأي هزيمة بل بنصف التفاتة، وبنصف عين، استطاع أن يضع نصب عينيه هدفاً: إسقاط الطائرة.

لم يكن يحيى بشراً عادياً، فحرك يده الأخرى، تلك اليد التي لم تزل فيها بقية قوة، والتقط عصاً كانت ملقاة على الأرض رماها نحو الطائرة، وكأنها سهمه الأخير الذي أراد من خلاله أن يبعث رسالة لا يفهمها إلا الأبطال: "أنا هنا، ولست منهزماً".

المشهد كان رهيباً، فالموت كان على بُعد لحظات، ويد الموت كانت تمتد له بوضوح ولكن، وكأن هذا الرجل لم يرَ الموت كما يراه بقية البشر كانت شجاعة يحيى تتجاوز حدود الجسد المتعب والجراح الغائرة.

كان في لحظته الأخيرة أسطورة حية، يخاطب السماء والأرض، يخاطب التاريخ، قائلاً: "أنا لا أموت، أنا أخلّد نفسي بهذا الفعل".

لك أن تتخيل، في لحظة لم يكن فيها الوقت مناسباً لأي فعل، أن يجلس رجل وينتزع من نفسه القوة والإرادة ليقول للعدو: "لن تراقب نهايتي، ولن تكون أنت من يروي قصتي" مشهد عصا تخرج من يد رجل مكلوم بالجراح، وتتجه نحو الطائرة، كان أقوى من أي سلاح، أقوى من أي مشهد حرب كان إعلاناً لنهاية رجل ليس ككل الرجال.

إن القصة هنا ليست مجرد حكاية رجل قتل في المعركة إنها حكاية بطولة تتجاوز المعاني المعتادة للبسالة والشجاعة يحيى، أو أبو إبراهيم، كان مختلفاً منذ ولادته وحتى شهادته هذه اللحظة الأخيرة كانت تتويجاً لمسيرة حياة مفعمة بالتضحيات، مسيرة اختار فيها أن يظل واقفاً، ثابتاً، حتى في لحظات الانهيار.

ومن هنا، ينبع السؤال: ما الذي يجعل رجلاً كهذا يُحفر في الذاكرة بهذا الشكل؟ إنه ليس فقط الفعل الأخير، بل هو تراكُم من مواقف البطولة والشجاعة التي صاغت مسيرته.

كلما تحدث من عرفوه عنه، تحدثوا عن رجل يعيش وفق مبدأ واحد: الكرامة لا تُباع ولا تُشترى وفي كل معركة خاضها، كان يقاتل ليس فقط من أجل الانتصار في الميدان، بل من أجل إرساء قواعد العز والشرف.

إن من يتأمل في مسيرة يحيى يدرك أن البطولة لم تكن حالة عابرة في حياته منذ سنواته الأولى، اختار أن يكون ضمن أولئك الذين يرفضون الانحناء، الذين لا يقبلون أن تكون حياتهم مسيرة عادية كانت كل لحظة في حياته درساً في التمرد على الخضوع، في تحدي الظلم، وفي الانتصار للقيم العليا.

ربما كان يمكن أن تنتهي القصة هنا، مع رمي العصا على الطائرة، ولكن تلك اللحظة لا تنتهي بموت الجسد إن يحيى، بفعله الأخير، وضع نفسه في مصاف أولئك الذين لا تُنسى أسماؤهم، الذين يُروى عنهم وتُكتب عنهم الحكايات .

حينما سقط جسده، بقى اسمه وروحه شاهدة على أن البطولة ليست في البقاء، بل في كيفية المغادرة.

ليس غريباً أن نتساءل: هل كانت هذه النهاية مكتوبة في دفتر السيناريو؟ هل كان هناك مخرج يقف خلف الكواليس، يعطي التعليمات ليحيى كيف يتحرك، وكيف يرمي العصا؟ الإجابة بالطبع لا هذه اللحظة كانت تجسيداً حقيقياً لعظمة رجل.

رجل رفض أن يكون جزءاً من مشهد روتيني لموت محارب آخر أراد أن يختار خاتمته بنفسه، وأن يكتب بيديه فصل النهاية.

نحن أمام قصة تتجاوز حدود الواقع لتصل إلى الخيال، لكنها خيال يتجسد في حقيقة لا يمكن إنكارها لقد قدم يحيى درساً في كيفية مواجهة الموت بكرامة، وترك للأجيال القادمة إرثاً لا يُقدر بثمن: إرث الشجاعة في أسمى صورها.

فإن كانت هناك أفلام تروى عن الأبطال الخارقين، فلتكن قصة يحيى تلك التي يرويها المستقبل.