كتابات وآراء


الجمعة - 03 يناير 2025 - الساعة 04:41 م

كُتب بواسطة : الصحفي / حسين الشدادي - ارشيف الكاتب





كانت الصحافة، منذ فجر نشأتها، ضميراً يقظاً يعكس نبض الشعوب وآمالهم وآلامهم، تقف كمنبرٍ لمن لا منبر له، وكصوتٍ لمن أُخرست أصواتهم في صخب الأنظمة ومراوغات السياسة، لكنّ اليوم، ومع سطوع شمس وسائل التواصل الاجتماعي، التي امتدّ وهجها ليغمر كل زاوية من زوايا المجتمع الإنساني، يبرز سؤال فلسفي عميق: هل أفرغت هذه الوسائل الوظيفة النبيلة للصحافة من مضمونها؟

لقد شكّلت منصات التواصل الاجتماعي فضاءً رقمياً مفتوحاً، يتيح لكل فرد أن ينصب لنفسه منبراً عالياً، فباتت الحروف تنسكب بغزارة بلا رقيب، والأفكار تتشابك بلا نسق، حتى أضحت الأصوات المتنافرة أشبه بجوقةٍ ضاعت منها المقطوعة الموسيقية، في هذا الزحام، تبدو الصحافة التقليدية كما لو كانت رجلاً شيخاً يحاول أن يسمع العالم حكمته، لكن أصوات الضجيج تعلو وتطغى.

ولكن، أليس من السذاجة أن نفترض أن منصات التواصل قادرة على أداء الدور الصحفي نفسه؟ إذ إنّ الصحافة، في جوهرها، ليست مجرد نقل عشوائي للأحداث، بل هي بناءٌ معرفي يرتكز على التمحيص والتدقيق، وعلى نسج الحقائق في قالبٍ يربط بين الجزئيات بخيطٍ منطقٍ متماسك، لا يهتزّ تحت ثقل الاستنتاجات، أما وسائل التواصل، ففي غالبها، لا تعدو كونها مرآةً مكسورة تعكس أجزاء مشوهة من الواقع، تُدار بفوضوية واندفاع عاطفي.

إنّ الصحافة، وهي تُصارع للبقاء في هذا العصر الرقمي الطاغي، تجد نفسها مطالبة بإعادة اكتشاف ذاتها، لا عبر تقليد منصات التواصل، بل بتعزيز دورها كمرشد فكري وأخلاقي، وكعينٍ ثالثة ترى ما لا يُرى في زحمة الأحداث، فلا يزال القارئ الواعي يبحث عن ذلك العمق المعرفي الذي لا تمنحه التغريدات السطحية ولا مقاطع الفيديو القصيرة، بل تجلبه المقالات التحليلية والاستقصاءات التي تخاطب العقل قبل العاطفة.

لذا، يمكن القول إنّ وسائل التواصل لم تُلغِ دور الصحافة، لكنها أرغمتها على خوض حرب وجودية، هي حربٌ تقتضي أن تُعيد الصحافة تأكيد شرعيتها كمصدرٍ موثوقٍ للمعلومة، وكفضاءٍ للبحث عن الحقيقة وسط غابةٍ من الأكاذيب والزيف، فالمسألة ليست في الصوت، بل في الصدى؛ الصحافة تُنطق الحقيقية، أما منصات التواصل فتُضخمها أو تطمسها.

وتبقى الصحافة كما كانت: منارةً في بحرٍ متلاطم، تنير طريق الحقيقة، حتى وإن بدا الأفق قاتماً، إنها ليست فقط صوتاً لمن لا صوت له، بل هي الحارس الأمين الذي يصدح بالحقيقة حين تُصادر، واليد التي تكتب حين تُقيد الأقلام الأخرى.