السبت - 14 ديسمبر 2024 - الساعة 01:45 ص
ليس في استطاعة أحد أن يقول كل شيء عن أي شيء، أو حتى عن شيء. . وإنما في وسعه فقط أن يقول القليل عن القليل. . وهذا أكثر مما سيتاح لي في هذا الحيز الضيق لأقوله عن الفنان المبدع الكبير أيوب طارش. . فإذا قصرت فإني أرجو ألا ألام فما أجمل ما قال الكاتب أوسكار وايلد عندما عاب الناس على أحد عازفي البيانو إنه لم يحسن العزف فقال: لا تلوموا العازف، إنه يبذل أقصى ما يستطيع.
إنني ذلك العازف . . وعندما أتحدث عن أيوب فإنني أعزف على أوتار نفسي أي أنني سأحاول أن أرى أبعد، وأسمع أعمق، وألمس أدق وأشم أكثر فقد وضع هذا الفنان اسمه على كل شيء وعينه على كل لون وأذنه على كل صوت، وأنفه على كل عطر ثم حرك أوتار عوده فسمعنا دقات قلوبنا..
لقد رافق أيوب مواجيدنا الوطنية متغنياً بتراب الوطن وسمائه، بأحلامه وطموحاته، وتأريخه ووحدته، تماماً كما رافق رحلة الغربة اليمنية فكان دندنة المهاجر المشتاق لبلاده وأهله ولوعة المنتظرات في كل مدينة وقرية وحقل فإذا سمعت امرأة تلوب: بصوته:
ارجع لحولك كم دعاك تسقيه
ورد الربيع من له سواك يجنيه
فإن شفاه رجل بعيد سترد:
(ميان له امعز من فارق ديار امحبايب
وكيف يهناه زاده)
وأيوب الذي جنينا معه حلاوة الأغنية الريفية غارقة بعرق المزارعين. . وفرحة المكدودين، كان أيضاً أجمل من رافق عواطفنا ولوّن أيام عشقنا . . أي أنه كان يطلق أغنيته . . ويترك أحاسيسنا تجري وراء ظله . . أو يتركنا نلاحق أصداءه في نفوسنا . . ومعنى ذلك أيضاً أن أيوب كان يقول ما في نفسه . . وما في نفوسنا. والتفسير الوحيد لما كان يفعله آلاف الناس الذين رأوا محبوباتهم وعايشوا مواجيدهم على أنات أيوب التي تعذُب حتى العذاب، أن وراء كل أغنية من أغنياته كم هائل من الشجن والحزن والأسى والمعاني الإنسانية الشجية، فلكل أغنية حرقتها الخاصة وسكينها الحادة . ويبدو أنه كان مع كل أغنية يفعل تماماً ما كانت تفعله قواقع اللؤلؤ حين تتسلل إليها ذرة من الرمل . . هذه الذرة تؤذي ذلك المخلوق الذي يسكن القوقعة . . فيغوص في أعماق البحر ويظل يفرز عليها مادة عازلة، وعلى مرّ الأيام تتحول هذه المادة العازلة إلى حبة لؤلؤ رائعة، فاللؤلؤ أو اللحن ليس إلا محاولة من الفنان لعزل جسمه عن هذه الذرة المؤلمة . واللؤلؤة ليست إلا دموع ذلك الفنان الحساس، فقد أقام القوقع قبراً رائعاً لذرّة الرمل، وذرة الرمل هي تلك المعاناة وذلك الشجن المرّ والحزن القاتم والأسى الأليم، أما حبة اللؤلؤ فهي العمل الإبداعي الجميل الذي نسمعه يقول:
ما دريش كيف قلبك رضي يروى
وقلبي ما رضيش
أشرب وأشرب من هوى غيرك
ولكن ما ارتويش
والضوء في عيني إذا غيبت وجهك
ما يضيش
خليتني ألقى وجوه الفجر
أعشى ما ستضيش
واحرقت أعشاشي وأرياشي
ولا خليت ريش
أو يقول:
تهنيتك وغنيتك غنا
أنا المحروم من خمر الوجن
ومن بعد التلاقي والهنا
رمى بي الحب في بحر المحن
تهدّا بي لأمواج الضنا
أخذ قلبي وسيب لي الشجن
يقهدني ويسقيني المنى
عطش يجري بروحي والبدن
لقد رافق أيوب في رحلته الغنائية شعراء كبار ولكنهم كانوا إلى جانب ذلك عشاقاً كباراً ومجربين أيضاً. . ولذلك فإن كلمات أغانيه ليست إلا صوراً لأعماق مشتعلة ومتوهجة إنها أعماق الشوامخ الذين غنى لهم وصور الحياة التي عاشوها . . فكل واحدٍ منهم عاش تجربة الحياة، وتجربة الحب، آلاماً وجراحاً هواناً وفشلاً، عذاباً وأنانية أيضاً. ثم إنهم غمسوا فرشاتهم في كل تلك الألوان ولم يكتفوا بذلك بل أشعلوا بما قالوه دماء أيوب، وكانت أغانيه من شعر الفضول بشكل خاص أشبه بتلك القطط الجميلة التي أحرقها أحد العشاق القدامى ثم أطلقها في حقول القمح لتشعل فيها النار ولم تكن حقول القمح في حالة أيوب إلا أرواحنا نحن ولذلك كانت أغانيه جذوة في قلوب كل العشاق المحبين والمتذوقين للفن والإبداع.
لقد جاء أيوب إلى الغناء مؤسّساً بتراثه العريق. . وظل الاخضرار الصوفي ملمحاً بارزاً في أغلب ما غناه. . ولكن ذلك الاخضرار الذي لم يكن برداً وسلاماً عليه وإنما كان ماءً قليلاً على نار كثيرة في وجدانه. . هو الذي جعل أيوب عصياً على كل الظروف والمعوقات. تشتد عليه المعاناة حتى يوشك على الاختفاء، ثم ينبعث من جديد انبعاث (برمثيوس) في الأسطورة الإغريقية ذلك الرجل الذي تنهش النسور قلبه، ثم ينبت له قلب جديد لتجيء النسور وتنهشه من جديد.
فهو وإن كان قد شرب من يد الشعب شهد المحبة والإعجاب والتقدير فإنه من جانب الجهات الرسمية قد بقي دائماً بين (امجفا وامغلايب).
ولعله قد شعر مرات بتلك المرارة التي يحس بها الفنانون الكبار فهو يعلم أن بينه وبين الناس نهراً، وهو يلقي في هذا النهر بدمه وخلاصة روحه، ويمضي النهر إلى الناس ولا يرتد عليه، وتبقى القمة التي انطلق منها جافة عطشى. .
هل استطعت أن أقول شيئاً يفي بحق هذا الفنان الكبير؟ أشكّ في ذلك . . فأنا أيضاً. ..
مكانني ظمآن.