الأحد - 06 أبريل 2025 - الساعة 03:54 م
شذرات إستراتيجية
في بلد أنهكته سنوات الحرب والخذلان، تتشكّل اليوم ملامح خطرٍ أشدّ تعقيداً من مجرد المواجهات العسكرية المباشرة .
إنه الخطر الكامن في الانتشار العشوائي وغير المنضبط للتشدد والسلاح، لا سيما في مناطق سيطرة الحكومة المدعومة من الرياض .
الباحث والكاتب السياسي عبد الفتاح الحكيمي أطلق مؤخراً تحذيراً صريحاً، مؤكّداً أن الطريقة التي يتم بها توزيع السلاح في تلك المناطق تنذر بكارثة أمنية قد لا تُحمد عقباها .
ففي الوقت الذي ينشغل فيه العالم بمفاوضات شكلية وإسقاطات سياسية من خلف المكاتب، تُعاد في الميدان صياغة مشهد دموي محتمل، عنوانه: “ الفوضى المنظمة ”. حتى لو نجحت واشنطن، فرضاً، في إسقاط جماعة أنصار الله، فذلك لن يعني نهاية الحرب، بل بداية فصلٍ جديد منها، قد يتحوّل فيه التشدد الديني والسلاح المنفلت إلى لعنة أكثر فتكاً بالشعب والوطن .
توزيع السلاح..
قنبلة موقوتة تهدد ما تبقى من اليمن
يحذر الباحث عبد الفتاح الحكيمي من منحنى خطير يتسارع في مناطق ما تُسمى “الحكومة الشرعية المقيمة بالرياض”، حيث لم يعد السلاح يُوزع وفق اعتبارات أمنية أو عسكرية مدروسة، بل بات يُمنح كما تُوزع الإعانات الموسمية أو الزكوات الفئوية، وفقاً لمعايير الولاء المذهبي والمناطقي والانتماء لا الكفاءة والانضباط .
والمفارقة الموجعة، أنه في الوقت ذاته الذي تنشغل فيه بعض الدول المجاورة بمحاربة التطرّف والتشدّد الديني داخل حدودها، تمضي في تمويله وتصديره إلى اليمن، لتزرع بذور الفوضى والتفجير في حاضر هذا البلد ومستقبله .
وكأنها تحاول أن تُنقّي ساحاتها من الخطر، بينما تغرسه عمداً في ظهر أرضٍ أنهكها النزيف، غير آبهة بأن هذا العبث سيعود يوماً ما ليحرق منبعه .
فزرع التطرّف بغطاء رسمي لحكومة فاقدة للشرعية القانونية والشعبية، لا يُنتج أمناً، بل ينتج أحقاداً مؤجلة، وكوارث تتنقّل عبر الحدود وتعود لأصحابها حين لا ينفع الندم .
هذا النمط العشوائي يفتح الباب أمام تساؤلات مصيرية تهدد بنسف ما تبقى من فكرة الدولة :
• من يمتلك القرار الحقيقي في إدارة هذا التشدد والسلاح ؟
• من يضمن ألا تتحول إلى أداة لتصفية الخصوم أو إشعال إقتتال داخلي ؟
• هل نحن أمام بداية مرحلة جديدة من الميليشياوية المقنّعة بدلاً من بناء جيش وطني جامع ؟
في ظل هذا المشهد، يبدو أن البلاد لا تتجه نحو الاستقرار، بل نحو تفخيخ المستقبل بقنابل قابلة للانفجار في أية لحظة، في بلدٍ أنهكته الصراعات وابتُلي بقيادات فاسدة تصنع من الخراب أموالا ًمدنسة وسلّماً لسلطاتها الركيكة .
صراع بثوب جديد..
التشدد الديني، المذهبي، المناطقي، والسلاح أداة الفوضى القادمة
تبدو التساؤلات اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى :
هل نشهد إعادة إنتاج للصراع اليمني بثوب مختلف ؟
وهل أصبح السلاح بدلاً من أن يكون أداة للدفاع عن الوطن سلعة تُوزَّع وفق معايير الولاء والجهوية والجهل والطائفية المقيتة، لا على أسس الدولة والمؤسسية ؟
إن تحويل السلاح إلى مكافأة سياسية وموسم للترضيات، لا يبشّر بقيام دولة، بل يُمهِّد لانفجار داخلي واسع، أشبه ببركان تحت الرماد، قابل للانفجار في أي لحظة .
إننا لا نتحدث فقط عن خطر داخلي، بل عن مشهد تمهيدي لانهيار شامل، تتداعى فيه ملامح ما تبقى من الدولة، ويُفتح الباب أمام حرب أهلية شاملة حتى بعد إسكات المدافع .
والأخطر من ذلك، أن هذا المخطط قد لا يكون يمنياً خالصاً، بل جزء من هندسة إقليمية ودولية تسعى إلى تفكيك اليمن وتحويله إلى نموذج قابل للتكرار في دول أخرى بالمنطقة .
فحين تتحوّل الطائفية والسلاح إلى بطاقة ولاء، يصبح المستقبل بأكمله مرهوناً بالفوضى، وتضيع معه السيادة والهوية .
إن ما يجري ليس مجرد عبث أمني، بل تدمير ممنهج لفكرة الدولة، وإعداد لمرحلة أخطر، تتجاوز جغرافيا اليمن، وتهدد بتصدير نموذج الحرب بالوكالة إلى قلب الإقليم، تماماً كما حدث في سوريا والعراق وليبيا .
حقيقةً :
إنها أسئلة مصيرية لا تحتمل التأجيل، تُطرح في لحظة حرجة من تاريخ اليمن، حيث يقف الوطن على شفا هاوية جديدة، قد لا تكتفي بابتلاع ما تبقّى من مؤسسات الدولة، بل قد تُجهز أيضاً على النسيج الاجتماعي الهش، وتغرق البلاد في دوامة من الفوضى والانقسامات يصعب الخروج منها .
فحين يُغيب القانون، وتُستبدل مؤسسات الدولة بالولاءات، ويتحول المواطن إلى مجرد رقم في معادلات النفوذ، تصبح كل لحظة تأجيل مُخاطرة وجودية، وكل تجاهل لتلك الأسئلة بوابة لمرحلة أكثر عتمة، لا تنذر فقط بانهيار الدولة، بل باندثار معاني الوطن ذاته .
هل نحن أمام مشهد يعيد إنتاج الميليشيات بثوبٍ جديد؟
سؤال يفرض نفسه بقوة في ظل هذا العبث المنظم بالطائفية والمناطقية والسلاح، حيث تُصاغ الولاءات بهذا المثلث المرعب، بدلاً من العقيدة الوطنية، وتُرسم معالم النفوذ على حساب فكرة الدولة المدنية الجامعة .
إن ما يجري لا يشير إلى مسار لبناء جيش وطني حقيقي، بل إلى تفخيخ المستقبل بتشكيلات مسلحة تتبع جماعات وأجندات، لا مؤسسات وقوانين .
وبدلاً من مؤسسة عسكرية محترفة تحمي الوطن، نشهد اليوم تفككاً منظماً يزرع بذور صراعات داخلية قد تُشعل البلاد لعقود، وتُجهز على أي أمل في استعادة الدولة .
إن فوضى التشدد والسلاح كانت ولا تزال وقوداً رئيسياً لاستدامة الحروب الداخلية وتمزيق النسيج الوطني .
فعندما تُنتزع أدوات القتال من يد الدولة، وتُوزع على أسس ولائية وفئوية، يتحول الوطن إلى مسرح مفتوح لصراعات عبثية لا تنتهي، حيث تتناحر مراكز القوى، لا من أجل السيادة أو المصلحة العامة، بل لتكريس النفوذ بالوكالة للأجنبي، وتقاسم الغنائم .
وفي غياب جيش وطني موحد، تصبح كل بندقية مشروع حرب، وكل مجموعة مسلحة دولة داخل الدولة، لتغدو البلاد رهينة للفوضى، ومعرضة لانهيار شامل يقضي على ما تبقى من مؤسساتها ومقوماتها .
هل تتحول معركة الحوثيين إلى حرب أهلية ؟
من أخطر السيناريوهات التي يطرحها عبد الفتاح الحكيمي، أن سقوط الحوثيين، إن حدث، وأنا لا أرجح ذلك، لإن الهدف فقط إضعافهم، وإبعادهم عن الساحل، لكن حتى لوحصل، فإنه قد لا يشكل نهاية للحرب، بل بداية لفصلٍ أكثر تعقيداً ودموية، حيث ستدخل البلاد في دوامة صراع داخلي متعدد الأطراف، تتنازع فيه الفصائل المدعومة من الخارج، في غياب أي مشروع وطني شامل .
فاليمن، الذي أنهكته سنوات الحرب، ليس بحاجة إلى تبديل إيديولوجيا أو مليشيا بأخرى، بل إلى دولة مؤسسات وسلطة تستمد شرعيتها من الشعب في الداخل، لا من خارج الحدود .
إلا أن المسار الراهن يُنذر بالاسوء :
خارطة ممزقة لمناطق نفوذ، تتحكم بها مليشيات ولاؤها للممول لا للوطن، وسلاحها وسيلتها لفرض الأمر الواقع .
وهذا ليس فقط تهديداً لليمن، بل وصفة جاهزة لانفجار إقليمي لا تُعرف عواقبه .
يطرح عبد الفتاح الحكيمي سؤالاً بالغ الأهمية :
كيف لقوات شرعية مدعومة بهذا الحجم سياسياً وعسكرياً، أن تعجز عن حسم المواجهة مع الحوثيين، رغم الغطاء الجوي المكثف والضربات الأمريكية المتواصلة ؟
هذا الفشل لا يمكن تفسيره فقط بالعوائق العسكرية، بل يعكس غياب رؤية إستراتيجية واضحة، وتفكك القرار داخل معسكر “الشرعية الوهمية”، حيث تُوزَّع الأسلحة بلا ضوابط، وتُنشأ التشكيلات العسكرية على أسس فئوية ومناطقية لا وطنية .
ما الجدوى من هذا التوسع في التسلح إن لم يُفضِ إلى نتائج حاسمة ؟
بل الأخطر :
ما الذي يمنع هذا السلاح من أن ينقلب لاحقاً إلى أداة صراع داخلي ؟ فدون جيش موحد وعقيدة وطنية جامعة، ستظل القوة موزعة على ولاءات ضيقة، تحوّل اليمن إلى ساحة تناحر دائم، لا مشروع إنقاذ وطني .
إن الإصرار على هذا النهج العبثي في إدارة الصراع، يشير بوضوح إلى أن كثيراً من القوى المنخرطة في الحرب لا تسعى إلى النصر، بل إلى إطالة أمد النزاع، لأن في إستمرار الحرب فرصاً للمكاسب السياسية والاقتصادية، وصفقات النفوذ، وترسيخ واقع جديد على الأرض .
فالحرب، بالنسبة لهؤلاء، لم تعد وسيلة لحماية الوطن، بل سوقاً مفتوحة لتقاسم الغنائم، على حساب وطن يتآكل، وشعب يُستنزف، ومستقبل يُقبر قبل أن يولد .
إنهم يربحون من الدمار، ويعتاشون على الركام، ويخشون أن تُطوى صفحة الحرب، لأنها ستطوي معها امتيازاتهم ومصادر قوتهم .
وتُمنح القوى الأجنبية، في ظل هذا العبث، شرعية مفتعلة للتواجد على الأرض اليمنية، تحت ذرائع دعم الشرعية أو محاربة الإرهاب، بينما الواقع يُظهر شيئاً مختلفاً تماماً :
تمكين نفوذ خارجي، وفرض وصاية سياسية وعسكرية على القرار اليمني، بل وتحويل اليمن إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية .
وهنا يكمن الخطر الحقيقي :
أن تتحول السيادة إلى ورقة تفاوض، وأن يُختزل الوطن إلى خرائط نفوذ يتقاسمها الإقليم والعواصم الكبرى، بينما يُغيب اليمني عن معادلة تقرير مصيره، ويُسلب حقه في بناء دولته المستقلة على أرضه، دون وصاية ولا إحتلال مقنّع .
تحذير الحكيمي من إنشاء مراكز قوى جديدة على أنقاض الدولة اليمنية يعكس رؤى تنبؤية دقيقة لمستقبل اليمن المظلم .
فبينما يظل حلم إستقرار اليمن بعيد المنال، تواصل بعض الأطراف، انتهاك الدستور والقوانين النافذة، والتلاعب بمصير البلاد، مُعتبرين سقوط الحوثيين إن حصل، مجرد فرصة لإعادة تشكيل المشهد السياسي بما يحقق مصالحهم الضيقة، وليس لبناء الدولة اليمنية الحديثة، وإعلاء مصالح الوطن وإنقاذ الشعب اليمني الذي أنهكته الحروب .
وفي هذا السياق، لا يبدو أن اليمن في طريقه نحو السلام الحقيقي؛ بل هو في طريقه إلى انتقال من فوضى إلى فوضى، ومن حرب إلى حرب .
فالحرب التي يُروج لها تحت مسمى “إعادة بناء الدولة” قد تكون في الواقع إعادة إنتاج للفوضى، ليظل المواطن اليمني محاصراً بين صراع المصالح المتناقضة، بينما يدفع الثمن الأكبر في كل مرحلة من مراحل الجور والصراع العبثي، المستمر منذوا أكثر من عشر سنوات .
الخلاصة والوجع :
اليمن إلى أين ؟
إذا إستمر نهج نشر التطرف والتوزيع العشوائي للسلاح بعيداً عن إطار الدولة، فإن اليمن لن يخرج من دوامة العنف، بل سيغرق في صراع داخلي معقد ودموية مفرطة .
ولا شك أن تفشي هذه الفوضى يعمق الانقسامات، ويغذي مراكز القوى المتنافسة، التي تزداد قوة في غياب مؤسسات الدولة الوطنية .
ما هو الحل ؟
الحل الوحيد للخروج من هذا النفق المظلم هو حوار يمني خالص وبناء جيش وطني موحد، تحت قيادة واحدة، يتجاوز الولاءات الضيقة، وبناء دولة مؤسسات، تضمن العدالة والأمن لجميع أبناء اليمن .
دون هذا التغيير الجذري، سيظل اليمن على حافة الانهيار، في دوامة من الحروب التي لا تنتهي، بينما يستمر الفقراء في دفع الثمن على الدوام .
في النهاية :
نقول للإقليم الذي يمول هذه الفوضى :
لن يظل اليمن العظيم يطحن نفسه بنفسه، ولن تستمر المأساة تحت ذريعة “الحل السياسي” الذي لا يعكس إلا مصالحكم الضيقة، والتي تزداد عمقاً مع مرور الوقت .
أنتم بصدد زرع بذور حرب دائمة، وهذه الحروب لا تقتصر على من صنعها، بل تؤذي الجميع في النهاية .
يجب عليكم أن تدركوا وتعلموا يقيناً :
الحريق الذي تشعلونه في اليمن اليوم، لن يبقى في حدود هذه الأرض، بل سيصل إليكم غداً، بألسنة لهب لا تعرف الحدود ولا تقيم اعتباراً لمن أضرمها .
نصيحة لا تقدر بثمن
أحسبوها جيداً :
اليمن الآمن المستقر والمزدهر عون وسند لكم في كل الظروف .
إنه العمق الاستراتيجي، السكاني، التاريخي، القيمي، والحضاري،للجزيرة، والمنطقة العربية قاطبة .
اليمن ليس مجرد نقطة على الخريطة، إنه بركان خامد، يختزن في أحشائه تاريخاً عظيماً وحضارة ضاربة في عمق الزمن .
هذا البركان يتأهب للثوران في أي لحظة، وإذا انفجر، فلن يقتصر تأثيره على اليمن فقط، بل سيُغرق المنطقة بأسرها في تداعيات قد تبتلع الجميع، بلا استثناء .
في تلك اللحظة، لن يجد من اختاروا استثمار الدماء اليمانية لتحقيق مصالحهم غير المشروعة في أرض اليمن الكبير، إلا أنفسهم محاصرين في قلب النار التي أشعلوها بأيديهم .
نار لا تعرف حدوداً جغرافية، ولا تُقيَّد بمسارات سياسية، بل ستسحب كل من ساهم في إشعالها، بمن فيهم من ظنوا أنهم في مأمن .
سيتكشف لهم قريباً أن ظلال الحماية التي توهموا أنها تحيط بهم، هي سراب يذوب مع أول لهب، ليصبحوا هم أيضاً جزءاً من الحريق المدمر .
هذه النار ليست بعيدة كما يظنون، بل هي على بعد خطوة واحدة من أولئك الذين يظنون أنهم بعيدون عن آلامها، في حين أن الواقع سيُظهِر لهم عكس ذلك .
لأن المأساة التي تطحن اليمن اليوم، لا تعترف بالحدود ولا بالتحالفات، والذين يظنون أنهم خارج دائرة الخطر هم أول من سيكتشفون حجم الفجوة بين وهمهم وحقيقة الوضع، وأن واقع المأساة لا يعرف الحدود، وأنهم على وشك دفع ثمن هذا الجنون .
لك الله يا وطني الجريح
https://www.facebook.com/share/v/19ApMCXbGq/?mibextid=wwXIfr