كتابات وآراء


الثلاثاء - 29 أبريل 2025 - الساعة 04:54 م

كُتب بواسطة : الكاتب / مصطفى بن خالد - ارشيف الكاتب


شذرات إستراتيجية





في بلدٍ ظل طويلاً نموذجاً للاستقرار وسط محيط متقلب، لم يكن قرار القضاء الأردني في عام 2020 باعتبار تنظيم الإخوان المسلمين كياناً “غير قانوني” مجرد إجراء إداري؛ بل كان بمثابة إعلان رسمي عن نهاية مرحلة تاريخية كاملة، طُبعت لعقود بتشابك معقد بين الدين والسياسة .
لقد تدرجت العلاقة بين الجماعة والنظام من التحالف إلى الحذر، ثم إلى القطيعة الحاسمة، في مشهد يعكس التحولات العميقة التي يشهدها الأردن الشقيق داخلياً، والمنطقة إقليمياً .
فما الذي أوصل هذه العلاقة إلى مفترق الطرق؟ وكيف أعاد هذا القرار رسم ملامح الخريطة السياسية والاجتماعية في الأردن؟

جذور العلاقة :
من التحالف إلى انكشاف الطموحات العابرة للحدود

منذ أن تأسس فرع الإخوان المسلمين في الأردن عام 1945، أقام التنظيم علاقة تكتيكية مع الدولة، بدت في ظاهرها تعاوناً دينياً واجتماعياً، لكنها حملت في جوهرها طموحاً سياسياً طويل النفس .

وفي لحظات التوتر الإقليمي، خصوصاً مع تصاعد المد القومي واليساري في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، شكل الإخوان حليفاً مرحلياً للدولة، ساهم في تحقيق التوازن الداخلي، لكنهم في المقابل رسخوا نفوذاً عميقاً في مفاصل المجتمع والتعليم والدعوة، مستثمرين غطاء الشرعية في تعزيز مشروعهم الخاص .

ومع تصاعد رياح “الربيع العربي”، لم يخفِ التنظيم وجهه الحقيقي كحركة تسعى إلى ما هو أبعد من الدور الدعوي، متطلعة إلى بناء سلطة موازية تُحاكي تجارب حكم إسلامي عابرة للدول .

هنا بدأ التوتر يتسلل إلى العلاقة، مع تنامي القناعة داخل الدولة بأن الإخوان لم يعودوا مجرد تيار ديني محلي، بل امتداد لتنظيم عالمي تتصدره أجندات لا تخضع للمصلحة الوطنية، بل تحركها شبكات سياسية وفكرية تتجاوز سيادة الدول .

لقد أصبح واضحاً أن الإخوان لم يكتفوا بموقع “الشريك السياسي” ضمن النظام العام، بل سعوا تدريجياً إلى التحول إلى فاعل مهيمن، يستخدم أدوات المجتمع لا لبنائه بل للسيطرة عليه، تحت مظلة خطاب دعوي يبدو معتدلاً لكنه يحمل بين طياته مشروعاً سياسياً غامضاً ومعقداً .

وفي هذا السياق، لم يعد الحديث عن تنظيم قانوني داخل الدولة، بل عن كيانٍ ينتمي لفكر يتجاوز الجغرافيا والولاء الوطني، وهو ما دفع الدولة الأردنية إلى إعادة تقييم العلاقة، ليس فقط من منظور قانوني، بل بمنطق السيادة والاستقلال السياسي .

أسباب الحظر :
بين الداخل والخارج

1- الشق القانوني :
شرعية سقطت بالتقادم
في قلب الرواية الرسمية لقرار الحظر، يبرز العامل القانوني كأول مسمار في نعش الجماعة .

فمنذ صدور قانون الجمعيات الجديد عام 2008، دعت السلطات الأردنية جميع الكيانات غير المرخصة، بمن فيها الإخوان المسلمون، إلى تسوية أوضاعها القانونية بما يتماشى مع المعايير المعاصرة للدولة الحديثة .

لكن الجماعة، مدفوعة بثقة زائدة في تاريخها ومكانتها، أصرت على التمسك بـ”شرعية الماضي” ورفضت الخضوع للقانون الجديد، في مشهد بدا وكأنها تضع نفسها فوق المنظومة القانونية للدولة .

ورغم المساعي المتكررة التي قادها مسؤولون حكوميون ووسطاء سياسيون لحل الإشكال، تعامل التنظيم مع الأمر باعتباره تهديداً وجودياً لمشروعه، لا فرصة لتحديث وضعه القانوني .
وفي النهاية، سقطت تلك “الشرعية التاريخية” أمام منطق الدولة ومؤسساتها، ووجدت الجماعة نفسها، رسمياً وقضائياً، كياناً خارجاً عن الإطار القانوني، فاقداً للصفة والغطاء .

لقد كان هذا الرفض أكثر من مجرد موقف إداري؛ كان إعلاناً ضمنياً بأن الجماعة لم تعُد ترى نفسها كجمعية مدنية داخل دولة، بل كتنظيمٍ ذي سيادة رمزية موازية، وهو ما لم يكن الأردن مستعداً لقبوله في سياق دولة القانون والمؤسسات .

2- الانقسامات الداخلية :
رهان الدولة على تصدع الذات

لم يكن عام 2015 عاماً عادياً في تاريخ الإخوان المسلمين في الأردن؛ بل كان نقطة الانكسار التي كشفت هشاشة التنظيم من الداخل .
فحين أنشق عدد من قادة الصف الأول وأسّسوا “جمعية الإخوان المسلمين” بترخيص رسمي من الدولة، بدا واضحاً أن الجدار التاريخي للجماعة لم يعد صلباً كما كان يتصور الكثيرون .

هذه الانقسامية لم تكن مجرد خلاف تنظيمي عابر، بل كانت تعبيراً صارخاً عن صراع عميق حول الهوية والاتجاه والمصالح.
وبينما تمسكت الجماعة الأم بخطاب “الشرعية التاريخية”، أختار المنشقون طريق الاعتراف بالقانون والانخراط ضمن الإطار الرسمي، مما أتاح للدولة الأردنية فرصة نادرة :
التعامل مع جسم إخواني جديد أكثر انضباطاً وقابلية للرقابة، بعيداً عن طموحات التنظيم الأم العابرة للحدود .

بذلك، تحولت الجماعة الأم من شريك سياسي محتمل إلى كيان منكشف ومعزول، تتآكل شرعيته الداخلية بقدر ما تتآكل مكانته القانونية .

وبينما كانت الدولة ترعى الإطار القانوني الجديد، كانت الجماعة التقليدية تفقد، بصمت، جزءاً كبيراً من قدرتها على الحشد والتأثير، ممهدة الطريق أمام قرارات الحظر والمصادرة التي جاءت لاحقاً .

لقد كان رهان الدولة على الانقسام رهاناً محسوباً، ونجح في تفتيت البنية التنظيمية للإخوان من الداخل، قبل أن تُستكمل عملية تحجيمهم بالقانون والسياسة معاً .

3- التحولات الإقليمية :
رياح التصنيف تكشف الغطاء

في خضم أضطرابات الإقليم وانهيار أنظمة وصعود أخرى، وجدت جماعة الإخوان المسلمين نفسها في قلب عاصفة سياسية متصاعدة، بعدما تحولت من قوة إسلامية صاعدة إلى تنظيم موصوف بالإرهاب في عواصم عربية مؤثرة مثل القاهرة والرياض وأبوظبي .

هذا التوصيف لم يكن وليد خصومة أيديولوجية فقط، بل جاء بعد وقائع ملموسة ربطت التنظيم بأجندات تخريبية، ومحاولات للانقضاض على الدولة من داخل مؤسساتها .

في هذا السياق، لم يكن من الواقعي أن تبقى عمّان في موقع المتفرج، ولا أن تحتفظ بعلاقتها القديمة مع تنظيم تتآكل سمعته وتُعَاد قراءته إقليمياً كخطر على إستقرار الدولة الوطنية .

فالأردن الشقيق، بما يمتلكه من حساسية جيوسياسية، لا يستطيع أن يتحمّل كلفة احتضان كيانٍ بات يُنظر إليه كحصان طروادة داخل الأنظمة السياسية، يُظهر الاعتدال في العلن، ويضمر مشروعاً فوق وطني في السر .

أمام هذا الواقع، وجدت القيادة الأردنية نفسها مدفوعة لا فقط باعتبارات أمن داخلي، بل أيضاً بحتميات التحالفات الإقليمية .

إذ لا يمكن للأردن أن يوازن بين شراكاته السياسية والاقتصادية مع دول صنّفت الإخوان “جماعة إرهابية”، وبين إستمرار احتضان كيان يشترك معها في الاسم والرؤية والتنظيم العالمي .

لقد هبّت رياح التصنيف، وسحبت الغطاء السياسي عن الجماعة في أكثر من عاصمة عربية، وجعلت الإخوان في الأردن يبدون كتنظيم عالق بين شرعية محلية متآكلة، وانتماء إقليمي بات عبئاً أكثر منه سنداً .

وهكذا، كان لا بد من مراجعة العلاقة، لا كخيار سياسي، بل كضرورة إستراتيجية لحماية أمن الدولة ومصالحها في زمن لا يرحم التردد .

4- الضغوط الأمنية والسياسية :
عندما تجاوز التنظيم حدود اللعبة

في عين الدولة الأردنية، لم يعد تنظيم الإخوان المسلمين مجرد لاعب سياسي طبيعي ضمن قواعد اللعبة؛ بل تحول مع مرور الوقت إلى كيان يلوّح بالاحتجاج ويحشد الشارع كلما اقتضت مصالحه، دون اعتبار لاستقرار الدولة أو مصالح المجتمع الأوسع .

خلال موجات “الربيع العربي”، برزت الجماعة كلاعب نشط في تغذية الحراك الشعبي، مستثمرة الأوضاع الاقتصادية والسياسية لتوسيع هامشها وفرض معادلات جديدة على النظام .

هذا السلوك عزز لدى صانع القرار قناعة راسخة بأن استمرار السماح لتنظيم ذي طابع عابر للحدود بالتحرك بحرية، يشكل خطراً إستراتيجياً لا يمكن تجاهله .

الإخوان، الذين ظلوا طويلاً يقدمون أنفسهم كجزء من النسيج الوطني، أظهروا في لحظات الاختبار الكبرى أن ولاءهم الأول والأخير لمشروعهم الفكري والتنظيمي، لا للدولة التي احتضنتهم لعقود .

وهنا برزت الحاجة الملحة لوضع حدود صارمة لما يمكن أن يُسمى “ العمل السياسي المشروع ”.
لم تعد المعادلة تحتمل وجود كيان يستخدم أدوات السياسة ظاهرياً، بينما يخفي مشروعاً تغييرياً عميقاً يتجاوز الدستور والقانون، ويتغذى على أجواء الإرباك والاحتجاج .

بالنتيجة، أصبح الحظر ليس خياراً سياسياً فحسب، بل إجراءً وقائياً لدرء خطر داهم على الأمن الوطني والنظام العام، خصوصاً في زمن إقليمي مضطرب لا يحتمل المجازفة .

نتائج الحظر :
مشهد جديد ومتغير

1- تفكيك النفوذ التاريخي :
نهاية زمن التنظيم

مع صدور حكم محكمة التمييز الأردنية، طُويت صفحة الجماعة الأم قانونياً، وتمت مصادرة ممتلكاتها ومقراتها لصالح الجمعية المرخصة .
لم تكن هذه الخطوة مجرد إجراء إداري، بل ضربة إستراتيجية استهدفت قلب المشروع الإخواني في الأردن، حيث حُرم التنظيم من أهم أدواته :
المقرات التي كانت منصات للحشد، والموارد التي كانت تغذي نشاطه السياسي والاجتماعي .
في لحظة واحدة، فقد الإخوان مظلتهم الشرعية وأرضهم التنظيمية، وتحولوا من لاعب مؤثر إلى كيان هامشي يكافح للبقاء .

2- إضعاف الذراع السياسي :
جبهة العمل الإسلامي تحت المجهر

رغم احتفاظ حزب جبهة العمل الإسلامي بترخيصه الرسمي، إلا أن الأرضية السياسية التي كان يتحرك فوقها تهشمت تحت قدميه .
الحصار القانوني والاجتماعي الذي تلا حظر الجماعة أصاب الحزب بالشلل التدريجي؛ فتراجع تمثيله في البرلمان، وخسر قطاعات واسعة من قواعده الشعبية التي كانت ترتكز، بدرجة كبيرة، على شبكة الإخوان .

أصبح الحزب يتحرك في مشهد مشبع بالشكوك والرقابة، مقيداً بقيود جديدة فرضتها قراءة رسمية أكثر حذراً لكل ما يمت للإخوان بصلة .

3- تغير مشهد الإسلام السياسي :
فراغٌ بلا قائد

مع انسحاب الإخوان من الواجهة، خُلقت فجوة في ساحة الإسلام السياسي في الأردن الشقيق، لم يملأها تيار واحد حتى الآن .

بل انقسمت الحالة بين مبادرات خيرية فردية، وجماعات جديدة ذات توجهات محافظة أو مستقلة، وبين تيارات وهابية سلفية منافسة سعت لاحتلال المساحات الخالية .

لكن هذا التغير لم ينجح، حتى اللحظة، في إنتاج قوة بديلة منظمة بالثقل ذاته، مما جعل مشهد الإسلام السياسي يبدو أكثر تناثراً وضعفاً، وأقل قدرة على التأثير السياسي المباشر .

4- استقرار سياسي نسبي :
تحكم أعلى بالمشهد

على المدى القريب، نجح حظر الجماعة في تخفيف حدة الاستقطاب السياسي الذي كان يهدد الاستقرار الداخلي، خصوصاً في الفترات التي شهدت اضطرابات اقتصادية واجتماعية متلاحقة .
أعطى تفكيك التنظيم للدولة هامشاً أوسع لإدارة المشهد العام، بعيداً عن الابتزاز السياسي أو محاولات فرض شروط عبر الحشد الشعبي .

ومع أن التحديات لم تختفِ، إلا أن الساحة أصبحت أكثر خضوعاً لمنطق الدولة، وأقل عرضة لمفاجآت كانت الجماعة تتقن صناعتها في الكواليس .

الخلاصة :
بين القانون والسياسة

يبقى حظر جماعة الإخوان المسلمين في الأردن خطوة محسوبة ضمن إطار قانوني بحت، كما تراه الدولة، إلا أنه في عمقه يعكس تحولات سياسية عميقة تشي بتغيرات جذرية في علاقة النظام الأردني مع التيارات الإسلامية التقليدية .

هذه الخطوة، رغم أنها تمثل تحقيقاً للشرعية القانونية، إلا أنها تكشف أيضاً عن محاولات لإعادة صياغة المشهد السياسي الأردني بما يتماشى مع التوجهات الإقليمية والأمنية الجديدة، وتغيير قواعد اللعبة التي طالما أستثمر فيها الإخوان .

ومع إستمرار مشهد المنطقة في التحول والتأثر بالمتغيرات الإقليمية والدولية، يبقى السؤال الأهم في الأفق :
هل أغلق حظر الإخوان في الأردن الباب نهائياً على وجودهم السياسي، أم أن التنظيم سيجد طرقاً جديدة للتكيف والعودة إلى الساحة، بطرق أكثر مرونة وذكاء ؟

وإذ نعترف بصورة مطلقة بالحق السيادي للأردن الشقيق في تنظيم الحياة السياسية الداخلية بما تقتضيه مصالحه الوطنية العليا، فإن المشهد الأردني، والعلاقات بين الدولة والجماعات التي تتاخذ من الإسلام وسيلة للوصول إلى السلطة، ستظل في حالة تغير دائم، تستدعي التُعلم والانتباه المستمر والتأمل العميق في كل خطوة سياسية مقبلة .