الإثنين - 14 أبريل 2025 - الساعة 10:04 م
شذرات إستراتيجية
حضرموت.. سنام اليمن الكبير لا زقاق الحكم الذاتي
في مشهدٍ إقليمي يموج بالتقلبات، ووطن تتنازعه الأهواء والمشاريع الصغيرة، يطل علينا مصطلح “الحكم الذاتي” لحضرموت، لا كحلٍّ يُنقذ، بل كفخٍّ يُزيَّن بشعارات الاستقلال ووعود الإدارة المحلية، بينما هو في جوهره انزلاق نحو انكفاء خطير، ولبنة إضافية في مشروع تفتيت اليمن وتحويله إلى رقعٍ تتناحر على الهوية والحدود والمصالح .
لكن السؤال الجوهري يفرض نفسه بإلحاح :
هل حضرموت، بتاريخها العريق، ووزنها الوطني، ومكانتها الثقافية والسياسية، هي الكيان الذي يُراد له أن يُختزل في إطار “حكم ذاتي” هش؟
وهل يكون الردّ على نزعات الانفصال في عدن وصنعاء هو استنساخ انفصال جديد بثوبٍ مغاير؟
وهل يُعقل أن يُواجَه التمزق بمزيد من التمزق، وأن تُعالج الجراح بمزيد من الشروخ؟
الحقيقة التي يجب أن تُقال بصوتٍ عالٍ لا يعرف المجاملة :
حضرموت ليست ضلعاً يمكن بتره، ولا هامشاً يمكن عزله، ولا ورقة يمكن استغلالها في بازار السياسة الإقليمية القبيحة .
حضرموت سنام اليمن، وركنه الأصيل، وروحه التي لا تُستنسخ. هي أكبر من أن تُحشر في زقاق ضيق، وأعظم من أن تُقزَّم في مشروعٍ يحولها من رافعة للوطن إلى مجرد كيان في خريطةٍ مقسّمة تنتظر أن تُلتهم .
حضرموت ليست مجرد رقعة جغرافية على هامش اليمن، بل هي قلبه النابض، وسنامه العالي، وركنه الشامخ في معادلة التاريخ والسيادة والهوية .
بتاريخها الضارب في الجذور، برجالاتها الذين نقشوا أسماءهم في ذاكرة الوطن بحكمة وشرف، وبثقلها الجغرافي والديمغرافي والاقتصادي، تُعد حضرموت ركيزة لا تُختزل، وعموداً لا يُختصر، وركناً لا يُستغنى عنه في جسد اليمن الكبير .
إن الحديث عن الحكم الذاتي لحضرموت، أياً كانت دوافعه، لا يمكن قراءته خارج سياق مشاريع التجزئة والتفكيك .
سواء جاء هذا الطرح بحسن نية، أو نتيجة سوء تقدير، أو بفعل أجندات خارجية تجد في تمزيق اليمن فرصة لتعزيز نفوذها، فإن النتيجة واحدة :
تقديم حضرموت على مائدة الأطماع، وتحويلها من قوة جامعة إلى كيان قابل للاستثمار السياسي والتفكيك الجغرافي .
وحضرموت، بكل وعيها وتجربتها وتاريخها، أسمى من أن تنزلق إلى مشروع صغير، يُفصَّل على مقاس اللحظة، ويُقصيها عن دورها الحقيقي كحاملة لراية اليمن الكبير، لا راية الزوايا الضيقة والمصالح العارضة .
حضرموت، في كل المنعطفات والمراحل، أثبتت أنها أكبر من أن تُستدرج إلى مستنقعات الجماعات الضيقة، أو أن تُستغل في مشاريع الوهم السياسي .
لم تنزلق خلف جماعات صنعاء بثقلها الطائفي، ولا انحنت لأوهام عدن التي تُدار من خلف الستار، ولم تكن يوماً جزءاً من أحلام الإمامة، ولا من خيالات المجلس الانتقالي .
بل ظلت محافظةً على توازنها، متمسكة بدورها الوطني، عصيّة على الاستقطاب، ووفية لليمن الكبير الذي تنتمي إليه في التاريخ والهوية والمصير .
واليوم، حين يُطرح خيار الحكم الذاتي لحضرموت، فإن ذلك لا يمكن قراءته إلا كنتاج مشوَّه لواقع مأزوم، فرضته سنوات الحرب والإقصاء، وكرّسته تدخلات خارجية سعت ،ولا تزال، إلى تمزيق الجغرافيا اليمنية وتحويلها إلى خرائط نفوذ متنازعة، لا إلى وطن موحد ذي سيادة ومكانة .
وفي صدارة هذه الأطراف، تبرز دولة الإمارات العربية المتحدة، التي نشأت من تآلف مجموعة من المشيخات تحت راية الوحدة والتكامل، على يد القائد العربي الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه الذي لم يُخفِ يوماً فخره بأصوله اليمانية، وكان نصيراً لوحدة الصف العربي .
إلا أن سياسات بلاده في المرحلة الراهنة تعكس وجهاً مغايراً، حيث لم تُخفِ طموحاتها في السيطرة على الموانئ والجزر والسواحل اليمنية، وإعادة تشكيل خارطة البلاد بما يخدم مصالحها الغير مشروعة، ولو على حساب وحدة الشعب اليمني، وكرامة ترابه، وحقه المشروع في تقرير مصيره دون وصاية أو تدخل .
الحكم الذاتي :
انتحار سياسي يرتدي قناع التحدي
عندما يُطرح الحكم الذاتي لحضرموت كخيارٍ مضاد لمشاريع الانفصال في عدن وصنعاء، فإن ذلك لا يُعد مقاومةً بقدر ما هو استسلام مغلّف بشعارات السيادة .
إنه أشبه بمن يُقدم على قطع يده احتجاجاً على من بتر إصبعه ! منطقٌ مختلّ لا يبني دولة، ولا يصون وحدة، بل يُكرّس مناخاً مشوّهاً تتكاثر فيه الكيانات المريضة، وتتفتت فيه الجغرافيا إلى شظايا تبحث عن هوية وعن شرعية ضائعة .
هذا النوع من الردود الانفعالية لا يصنع مشروعاً وطنياً، بل يعيد إنتاج منطق التمزق تحت عناوين مختلفة .
فكيف يُعقل أن يُواجه مشروع الانفصال بمشروعٍ مشابه؟
وكيف يمكن لعاقل أن يعتقد أن المزيد من التقسيم سيقود إلى الاستقرار أو العدالة أو التوازن؟
إن الحكم الذاتي، في هذا السياق، ليس حلاً لحضرموت، بل فخٌّ خطير قد يُفضي إلى دويلة معلقة بين الطموح والخذلان، تفتقر للقدرة والسيادة، وتتحول بمرور الوقت إلى منطقةٍ عازلة بين مشاريع الآخرين، لا إلى قلبٍ فاعل في مشروع اليمن الكبير .
لقد شهدنا بأعيننا ما جرى في سوريا، حين حاول الأكراد، بدعم خارجي، فرض مشروع “الحكم الذاتي” كأمرٍ واقع فوق تراب وطنٍ مثخن بالجراح .
لم يكن ذلك المشروع سوى فقاعة سياسية انتفخت بتواطؤ دولي، لكنها ما لبثت أن انفجرت في وجه صانعيها خلال يومين فقط، حين أعتبرت تركيا، بكل ما لها وما عليها، أن هذا المسار يُشكّل تهديداً مباشراً لأمنها القومي ووحدة حدودها .
تركيا، التي كثراً ما ننتقد تدخلاتها، تصرّفت هنا من منطلق مبدأ واضح :
أمن الجار جزءٌ من أمن الذات، ووحدة الدولة الجارة ركيزة من ركائز الاستقرار الإقليمي.
فلم تتردد، ولم تساوم، ولم تكتفِ ببيانات القلق، بل أطلقت عملية عسكرية حاسمة بسلاحها وجيشها، دفاعاً عن وحدة سوريا، لا حباً في نظامها، بل رفضاً للمشاريع العابثة على خاصرتها .
وهنا، يطرح السؤال نفسه بمرارة ووضوح :
أين تقف الرياض من هذا المشهد؟
هل ترى في تمزيق اليمن وتقسيم نسيجه الجغرافي والاجتماعي خطراً وجودياً على أمنها القومي، أم أنها ما زالت تتعامل مع القضية بعقلية الملفات المؤقتة والتحالفات المرحلية، متغاضية عن التداعيات العميقة لمشروع التشظي؟
وهل تمتلك الرياض الشجاعة السياسية والرؤية التاريخية لتعيد تصويب البوصلة، وتتبنى مشروعاً حقيقياً لوحدة اليمن واستقراره، كما تبنّت من قبل أنصاف الحلول التي،كانت مدخلاً إلى هذا المنحدر الوجودي؟
إن اليمن ليس مجرد جار، بل هو الامتداد الطبيعي لعمق الجزيرة العربية، واستقراره ليس ترفاً، بل شرط لازم لأمن المنطقة بأكملها .
إن التاريخ لا ينتظر، والجغرافيا لا ترحم المترددين .
واليمن الذي يتمزق اليوم أمام أنظارنا، إنما يحمل في تمزقه إشارات واضحة لمستقبل قد لا يكون امناً حتى لمن يظن نفسه بعيداً عن اللهب .
السعوديون وموقفهم الملتبس :
بين صمت الشريك وغفلة الجار
حتى اللحظة، لا يزال السعوديون ينظرون إلى اليمن بعين أمنية ضيقة، يتعاملون معه كعبئ على حدودهم، لا كشريك استراتيجي وعمق حيوي لأمنهم الإقليمي .
هذا القصور في الرؤية، الذي طال أمده، لم يفتح فقط الباب لتدخلات خارجية، بل سمح بنشوء كيانات موازية للدولة، وبترسيخ مشاريع التقسيم على الأرض، ليجدوا أنفسهم، عن قصد أو غفلة، وقد أصبحوا جزءاً رئيساً من مشهد التفتيت، لا من خريطة الإنقاذ .
صمت السعوديين إزاء التمدد الإماراتي الغير المشروع في السواحل والموانئ، والدعم غير المباشر والمباشر لبعض الأجسام المناطقية مثل المجلس الانتقالي، والأحزمة الأمنية، وكذلك النخب المناطقية يجعلهم يبدون وكأنهم يباركون تشظي اليمن، أو على الأقل لا يمانعون وقوعه، في تبادل أدور خطير، لا يخبو على مطلع ولا يخفت على مستمع .
وهذا موقف لا يليق بدولة بحجمهم، ولا يتسق مع مصالحهم العميقة في استقرار الجزيرة العربية عامةً، وجنوبها خاصةً .
عليهم أن يعوا ويفهموا أن أمنهم القومي يبدأ من وحدة اليمن، لا من تفكيكه، ومن شراكة متوازنة مع دولة جارة قوية، لا مع كيانات هشة مرتهنة لإملاءات الخارج .
إن إطالة أمد الصراع في اليمن، أو التعايش مع مخرجاته المشوهة، هو رهان خاسر سيدفع الجميع ثمنه، وهم في المقدمة .
مجلس النواب :
حين يخون الحُماة الأمانة
مجلس النواب، الذي نُصّب حارساً لإرادة الشعب، بات اليوم أقرب ما يكون إلى مؤسسة خانعة، خانت قسمها الدستوري وخذلت ناخبيها، فغاب عن واجبه في أحلك لحظات الوطن، وأختار الصمت حين كان الموقف أوجب ما يكون .
الشرعية الفاسدة، المرتهنة، الغائبة، الخائبة ..
والمشهد الهزيل
في خضم هذا المشهد المرتبك والمتسارع، يغيب صوت الشرعية اليمنية الفاسدة كلياً، وكأن ما يجري لا يعنيها، أو كأنها أختارت طوعاً دور المتفرّج العاجز عن الفعل أو حتى التنديد .
قيادات، غارقة حتى النخاع في دوامة المناصب والتعيينات، تائهة في دهاليز التوازنات الهشة والمخصصات العابرة، وكأن الوطن ليس في معركة وجود بل في سوق نخاسة وتقاسم الغنائم .
وفيما البلاد تُقطع أوصالها أمام أعين الجميع، ويُنهش جسدها بأنياب مشاريع التفتيت، يتقاعس من يُفترض أنهم الحماة، ويغيب صوت الدولة في اللحظة التي كان يجب أن يرتفع فيها عالياً .
اليمن اليوم لا يحتاج إلى متفرجين على احتضاره، بل إلى رجال دولة حقيقيين، يحملون مشروعاً وطنياً جامعاً، ويذودون عن سيادته، قبل أن يتحول إلى جغرافيا منزوعة الهوية، بلا روح، ولا مشروع، ولا دولة .
إن الغياب المريب لموقف وطني رسمي حاسم في لحظة مصيرية كهذه، لا يفضح فقط هشاشة مؤسسات الدولة المهاجرة، بل يكشف عمق المأزق الذي يعيشه القرار السياسي اليمني، الموزّع بين عواصم الخارج ومصالح الداخل .
وحين يغيب الفعل الوطني، يملأ الفراغ أولئك الذين يتقنون اللعب على الحبال، ويحوّلون الخرائط إلى أدوات مساومة، والناس إلى أدوات صراع .
رسالة إلى الجارة
ورغم أن حديثنا موجه في المقام الأول إلى الداخل اليمني، إلا أن الرسالة الأهم لا بد أن تجد طريقها إلى الرياض .
إياكِ أعني، واسمعي يا جارة.
إذا كانت تركيا قد أدركت بحنكتها السياسية أن مشروع “الحكم الذاتي” للأكراد في سوريا يشكل تهديداً وجودياً لأمنها القومي، فكيف لا تدركين أن تقسيم اليمن إلى دويلات متنافرة هو خطر داهم يلامس أمنك ومستقبلك، بل يهدد وحدة ترابك، الذي يرتبط مصيره بمصير اليمن؟
هل تدرك الرياض أن إضعاف اليمن وتفتيته سيؤدي في النهاية إلى تآكل الجدار بأيدٍ ليست بالضرورة صديقة؟
وأنه في كل دويلة جديدة تبرز على الخريطة اليمنية، هناك شقوق ستظهر على حدودك، قد تكون أوسع وأعمق من أي تهديد آخر؟
ما الذي يحكم موقف الرياض تجاه اليمن الواحد؟
أهو مجرد موقف تكتيكي، أم أن الرياض تتعامل مع ملف اليمن وكأنه عبئ مؤقت يمكن التخلص منه بتقديم تنازلات لبعض الأطراف؟
الرياض، بما لها من ثقل سياسي وعسكري في المنطقة، تتحمل مسؤولية تاريخية تجاه إستقرار اليمن، الذي لا يمكن أن يكون إلا موحداً، لا مجزأ .
إن الأمن القومي للسعوديين، كما استقرارهم الداخلي، يظل وثيق الصلة بوحدة اليمن وسلامة ترابه .
فاليمن ليس مجرد جار، بل جدار الصد الأخير أمام الفوضى، وعمق استراتيجي لا غنى عنه لاستقرار الجزيرة العربية بأسرها.
فإلى متى سيبقى السعوديون في منطقة التردد، إزاء مشاريع التفتيت التي تتربص باليمن؟
ومتى يحسم العقل الاستراتيجي السعودي موقفه، ويدرك أن دعم وحدة اليمن ليس فقط واجباً أخلاقياً وتاريخياً، بل ضرورة وجودية تمس أمنهم ومصيرهم قبل أن تمس غيرهم؟
الخلاصة:
حضرموت…
راية اليمن، لا راية الزقاق
حضرموت، التي تسكن عُمق الحضارة، وتحمل على جبينها أقدم وشم في خارطة العروبة، لم تكن يوماً على هامش التاريخ، بل كانت دائماً قلبه النابض وروحه المضيئة .
ليست حضرموت مجرد محافظة على خارطة سياسية، بل هوية متجذرة، وذاكرة وطن، ومصدر إشعاع ثقافي وروحي في الجسد اليمني الواحد .
هي الأجدر بأن ترفع راية اليمن الكبير، بكل ما تحمله من معنى السيادة والكرامة، لا أن تُسحب إلى زوايا المشاريع الضيقة، تحت لافتات “الحكم الذاتي” أو ما شابهها من تسميات جوفاء لا تُخفي هشاشة أهدافها ولا خفة وزنها الوطني .
حضرموت لم تكن يوماً طرفاً في معادلات التشظي، ولا جزءاً من مشاريع الانقسام المصطنعة؛ بل كانت، وستظل، المعادل الثابت لوحدة اليمن، ورمزاً للتماسك في وجه الرياح التي حاولت اقتلاع الجذور .
ولهذا، فإن الواجب، وطنياً وأخلاقياً وتاريخياً، يضع على كاهل أبناء حضرموت مسؤولية أن يكونوا في طليعة المدافعين عن اليمن الواحد، لا بيادق في يد قوى تبحث عن خرائط جديدة تُخاط على مقاس المصالح، لا على مقاس الشعوب .
لقد إعتاد اليمن، حين اشتدت عليه المحن، أن يلتفت نحو حضرموت؛
لا ليضعها في الخلف، بل ليضعها في المقدمة، حاملةً للواء، وباعثةً للأمل، لا نقطةً باهتة على خارطة التفتيت .
والتاريخ لا يرحم من فرّط في الأمانة، والجغرافيا لا تغفر لمن بدّد ميراثها وسلّم مفاتيحها لمن لا يستحق .
فاليمن، بوحدته الجامعة، هو قدرنا الذي لا فكاك منه، ومصيرنا الذي لا يقبل القسمة .
وحضرموت لم تكن يوماً على هامشه، ولن تكون إلا في مركزه… في قلبه النابض، وصوته الذي يعلو كل راية دخيلة .
https://www.facebook.com/share/18xNiQSHb7/?mibextid=wwXIfr