الأحد - 08 يوليه 2018 - الساعة 01:25 م
في صغري كنا نتحلق حول أمي ، حين يغيب أبي عن المنزل في الليل لعمل أو لزيارة قريته ، وكانت أمي بصوتها الدافىء واداءها الخرافي تحكي لنا قصص مشوقة عن طفولتها ، كانت حدقاتنا تتسع دهشة ، ونشهق بين الأحداث ، و كنا نظن أن تلك القصص من نسج خيال أمي ، وليست واقعا حدث بالفعل ، واقعا عايشناه وعاشاه أطفالنا منذ إنقلاب الحوثيين وسيطرتهم على الحكم
كانت أمي تحكي لنا عن قريتها في إب ، وكيف كانوا يمرون بمجاعات وموجات قحط حد أنهم يقتسمون الرغيف الواحد لوجبتين ، يكتفون بها طوال اليوم ، ويبحثون عن جذور نباتات معينة لأكلها رغم أنها غير صالحة كغذاء بشري، عن أن اللحوم والفواكه وحتى الخضروات التي لا يزرعونها تعتبر رفاهية حصرية للاسرة الثرية الوحيدة بالقرية "أسرة عامل الإمام " ،
حكت لنا أمي عن مدافن القمح التي كانت تمتلئ بالحبوب المنهوبة من الفقراء الذين يتضورون جوعا ،حكت لنا عن مياة راكدة للبرك ، ومياه الأمطار غير الجارية التي شربوها بكل أمراضها ، رغم أنهم كانوا يرون بالعين المجردة العوالق والديدان فيها، عن ثوبها الوحيد الذي ترتديه طوال العام ، وتفرح كثيرا ان تبللت بالمطر أثناء الرعي ، لاضطرار أمها أن تلبسها ثوب العيد الذي تلبسه لاعياد كثيرة من العيد للعيد، حكت لنا امي ونحن مبهورين غير مصدقين عن أمراض كالكوليرا والطاعون التي كانت تحصد أرواح نصف اطفال القرية والتي كانوا يرجعون أغلبها للشياطين والأرواح الشريرة ويتداوون منها بالقطران وتعاويذ المشعوذين ، حكت لنا امي عن العزلة التي عاشوها لدرجة أنهم كانوا يعتبرون صنعاء نهاية العالم ، وكانوا يمضون للحج في رحلة شاقة تستغرق أشهرا ، ويموت الكثير منهم في الطريق، عن رجل غريب يأتي من صنعاء مع عساكر أغبياء بجراملهم يقتحمون المنازل بلا أدنى مراعاة للحرمات، يأتون كالجراد في موسم الحصاد ليسرقون أكثر من نصف المحصول الشحيح باسم الدولة ، وإن عجزت عن تسديد مايخمنه ذلك الرجل المسمى" المثمر أو المخمن " تتراكم عليك الديون حتى تصبح أرضك ومزرعتك ملك الإمام وعامله ، وتصبح أنت أجيرا في ملكك!!!!
حكت لنا امي بحسرة عن عصور الظلام والجهل التي جعلت من الإمام ملكا للجن كما صور نفسه ، وعن ساحات إعدام المعارضين بالسيف ، عن سجون الإمام التي اختفى فيها وللأبد شباب قريتها ، الذين همسوا بالشكوى ، أو اعترضوا على جور الضرائب، وظلم عامل الإمام ، عن خوف الناس الذي جعلهم يبتلعون ألسنتهم ويموتون بالجوع والفقر والأمراض والظلم والخوف والخرافة دون أن ينبسوا بصرخة وجع !!!
كانت أمي تخفي دمعة بطرف عينها بعد كل قصة تختمها بالصلاة على النبي ، وبحمد الله وشكره كثيرا أن أطفالها ولدوا بعهد الجمهورية .
توفيت أمي _لروحها السلام_ في عام 2014 قبل إقتحام مليشيا الحوثي لصنعاء ، ترى ماذا كانت ستقول أمي لو عاشت حتى اليوم وهي تشاهد عودة الإمامة الكهنوتية بأبشع صورها ، هل كانت ستموت من القهر ، وليس من جلطة السكر ؟! بل كانت ستحمل السلاح وتكون في مقدمة الصفوف لقتالهم ، وستدفعنا جميعا لقتالهم، أمي التي عاصرت عهد الإمام والجمهورية، فكانت جمهورية حتى النخاع وللنفس الأخير.