اخبار وتقارير

الأحد - 22 سبتمبر 2024 - الساعة 09:51 م بتوقيت اليمن ،،،

صدى الساحل - كتب/ صايل حسن بن رباع





في سبتمبر وأكتوبر، يرفع اليمنيون أصواتهم في احتفالات تعكس آمالهم وطموحاتهم، تلك الآمال التي ولدت من رحم ثوراتهم، لكن السؤال الأهم يبقى: هل حققت هذه الثورات ما سعت إليه؟ إن الأزمات التي تعصف بالأمم ليست عشوائية؛ بل هي تجسيد لصراعات داخلية ومعاناة تاريخية تبحث عن مخرج.

عبر العصور، تسعى الأمم إلى الخروج من دوائر البؤس والاضطراب نحو دروب الازدهار، لكن، كما نعلم جميعًا، لا يأتي هذا الازدهار كمنحة إلهية، بل هو نتاج تخطيط استراتيجي دقيق يعتمد على الحكم الرشيد والتنمية المستدامة، يقول الله تعالى في محكم كتابه: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد11)، هنا، يكمن جوهر التحول: أن تبدأ الأمم بالتغيير من داخلها، ومن نفسها، قبل أن تنتظر من الآخرين ما يمكن أن يساعدها.

الركيزة الأولى: الحكم الرشيد

يمكن اعتبار الحكم الرشيد العمود الفقري لأي نهضة تنشدها الأمم، إنه القدرة على إدارة الموارد الوطنية والسياسية بما يعزز الشفافية والمساءلة، ويحقق العدالة الاجتماعية، تتجلى عناصر الحكم الرشيد في:

1- الشفافية: ضمان وضوح المعلومات والسياسات الحكومية، مما يبني الثقة بين الحكومة والشعب.

2- المساءلة: يتطلب هذا مراقبة مستمرة للمسؤولين ومحاسبتهم عن أدائهم.

3- المشاركة: إشراك المواطنين في عملية اتخاذ القرارات.

4- سيادة القانون: تطبيق القوانين بشكل عادل على الجميع.

5- العدالة الاجتماعية: توزيع الفرص والثروات بشكل عادل.

تجارب الدول كسنغافورة ورواندا تعكس كيف يمكن أن يكون للحكم الرشيد تأثير هائل في دفع عجلة التنمية. سنغافورة، التي بدأت كدولة فقيرة، استطاعت أن تبني اقتصادًا قويًا عبر سياسات صارمة لمكافحة الفساد، مما جعلها بيئة جاذبة للاستثمار. بينما ركزت رواندا، بعد فترة من الصراع، على المصالحة الوطنية وبناء مؤسسات حكومية شفافة.

الركيزة الثانية: التنمية المستدامة

لكي يتحقق التغيير المنشود، يجب أن تكون التنمية المستدامة هي الإطار الذي يوجه الجهود. تعني التنمية المستدامة تلبية احتياجات الجيل الحالي دون المساس بقدرة الأجيال القادمة على الحياة، وتعتمد على التوازن بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والبيئية:

1- الاستدامة الاقتصادية: تطوير الأنشطة الاقتصادية لضمان استمرارية النمو.

2- الاستدامة البيئية: المحافظة على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة.

3- الاستدامة الاجتماعية: ضمان العدالة والمساواة في توزيع الفوائد.

تواجه الدول تحديات كبيرة في مجال التمويل، ويعتبر التمويل أحد أكبر العقبات التي تواجه التحولات التنموية، لذا، من الضروري أن تعتمد الدول استراتيجيات فعالة لتجاوز هذه العقبة، مثل:

1- تنويع مصادر التمويل: يجب على الحكومات السعي نحو إيجاد مزيج متوازن من التمويل الداخلي والخارجي، مع تحسين إدارة الأموال العامة.

2- التمويل المستدام: استخدام نماذج تمويل مبتكرة مثل الصناديق السيادية، الشراكات بين القطاعين العام والخاص، والاستثمار في المشاريع ذات العوائد الاجتماعية والبيئية.

3- تطوير الأنظمة المالية: تحسين البنية التحتية للتمويل المحلي، من خلال إنشاء مؤسسات مالية قادرة على توفير القروض للمشاريع الصغيرة والمتوسطة.

4- التعاون مع المنظمات الدولية: السعي للحصول على المساعدات الفنية والمالية من المنظمات الدولية لدعم المشاريع التنموية.

5- تعزيز الشفافية في تخصيص الموارد: يجب أن تُنفذ آليات فعالة لضمان عدم هدر الموارد وتحقيق أقصى استفادة منها.

كيف تصنع أي دولة وصفة نجاحها؟

التحول من البؤس إلى النجاح ليس بالأمر السهل، ولكنه ممكن. الدول التي استثمرت في الحكم الرشيد والتنمية المستدامة وواجهت التحديات بإصرار وجدت طريقها نحو الازدهار، من خلال التعلم من هذه التجارب واستخلاص الدروس، يمكن لأي دولة أن تضع وصفة نجاحها الخاصة.

تتجلى الفلسفة هنا في تقاطع بين النظرية والتطبيق، حيث يجتمع النص القرآني مع الحكمة الإنسانية، كما يقول هيغل: "التاريخ هو تطور الوعي الحر"، وفي هذا الإطار، يمكن لأي أمة أن ترسم مسارها نحو المستقبل إذا توافرت الإرادة والتصميم على إحداث التغيير الجذري.

إن التحول من الفشل للتغيير يقتضي التخطيط لمراحل التحول وفق استراتيجية من ثلاث مراحل أساسيه هي:

مرحلة التعافي:

الهدف هنا هو تحقيق الاستقرار واستعادة الثقة في المؤسسات. يتطلب ذلك تقييم شامل للأضرار الناتجة عن الصراعات، واستعادة الخدمات الأساسية، وتعزيز السلام والمصالحة، على المستوى المالي، يجب تأمين الموارد من خلال التواصل مع المنظمات الدولية وتطوير آليات الدعم وتعزيز المواررد المحلية.

مرحلة بناء مؤسسات الحكم الرشيد والبنى التحتية الناعمة والصلبة:

إنشاء مؤسسات فعالة تعزز الشفافية والمساءلة يتطلب إصلاح المؤسسات الحكومية وتطوير البنية التحتية، يجب أن تُسن قوانين جديدة تعزز العدالة الاجتماعية، ويجب تشجيع المشاركة المجتمعية عبر منصات الحوار، وتطوير البنى التحتية الصلبه.

مرحلة الانطلاق في التنمية المستدامة

هنا، يتجلى الهدف في تحقيق نمو اقتصادي مستدام قائم على الابتكار والمعرفة، يتطلب ذلك تعزيز الابتكار، وتنويع الاقتصاد، وتحفيز الاستثمارات، يجب وضع استراتيجيات واضحة تدعم الاستخدام المستدام للموارد، مع قياس التقدم والتقييم المستمر لضمان تحقيق الأهداف.

التركيز على تقنيات المستقبل:

لكي تتمكن الأمم من تحقيق التحول، يجب أن تُدرج تقنيات المستقبل في خططها الاستراتيجية، من أهم هذه التقنيات:

1- الذكاء الاصطناعي (AI): يعيد تشكيل الطريقة التي تعمل بها القطاعات المختلفة، من الرعاية الصحية إلى الصناعة، حيث يمكن للذكاء الاصطناعي تحسين الكفاءة وتقليل التكاليف.

2- البيانات الضخمة (Big Data) وتقنيات حسابات الكم (Quantum): تمكّن الحكومات والشركات من تحليل كميات هائلة من المعلومات لاستخراج رؤى قيمة، مما يساعد في اتخاذ قرارات مبنية على البيانات.

- تقنيات الكم: تشير إلى مجموعة من التقنيات المستندة إلى مبادئ ميكانيكا الكم، مثل الحوسبة الكمومية، التي تهدف إلى معالجة البيانات بسرعة تفوق الحواسيب التقليدية، تُستخدم في مجالات مثل التشفير، نمذجة الجزيئات، وتحسين الخوارزميات.

- البيانات الضخمة (Big Data): تتعلق بتجميع وتحليل كميات هائلة من البيانات التي تتجاوز قدرات المعالجة التقليدية، تُستخدم في استخلاص الأنماط والتوجهات من البيانات، وتطبيقات مثل الذكاء الاصطناعي، والتنبؤات السوقية، وتحسين تجربة العملاء.

كلا التقنيتين تمثلان مستقبلًا واعدًا، لكنهما يختلفان في الأساس والتطبيقات.

3- إنترنت الأشياء (IoT): يربط الأجهزة والأنظمة ببعضها البعض، مما يسهم في تحسين الخدمات العامة مثل النقل والطاقة والمياه، ويساعد على تحقيق إدارة ذكية للموارد.

4- التقنيات المالية (Fintech): تتيح الابتكار في الخدمات المالية، مما يتيح الوصول إلى التمويل للأفراد والشركات الصغيرة، وبالتالي تعزيز التنمية الاقتصادية.

5- الطاقة المتجددة: تساهم في الانتقال إلى أنظمة طاقة أكثر استدامة، وتلعب دورًا حيويًا في محاربة تغير المناخ.

6- التقنيات الحيوية (Biotech): تفتح آفاقًا جديدة في مجالات الطب والزراعة، مما يسهم في تحسين جودة الحياة وزيادة الإنتاجية الزراعية.

كيفية الوصول إلى الريادة في تقنيات المستقبل؟

لتحقيق الريادة في هذه التقنيات، يجب اتباع مجموعة من الاستراتيجيات المدروسة:

1- تعزيز التعليم والتدريب: تحديث المناهج التعليمية لتشمل موضوعات متعلقة بالعلوم والتكنولوجيا، وإنشاء برامج تدريبية تستهدف المهارات اللازمة في الصناعات المتقدمة.

2- تشجيع الابتكار والبحث والتطوير: تأسيس مراكز بحثية تتعاون مع الجامعات والشركات لدعم البحث في المجالات الحيوية، وتحفيز الابتكار من خلال تقديم حوافز مالية للمشاريع البحثية.

3- تحسين البنية التحتية: الاستثمار في شبكات الإنترنت والاتصالات السريعة، وتحسين المرافق العامة لدعم أنشطة الأعمال.

4- توفير بيئة استثمارية جاذبة: تبسيط الإجراءات القانونية لتأسيس الشركات، وتقديم حوافز ضريبية للمستثمرين في القطاعات التكنولوجية.

5- بناء شراكات دولية: إقامة شراكات مع دول رائدة في التكنولوجيا، والمشاركة في برامج دولية لدعم الابتكار والتكنولوجيا.

6- تطوير قدرات القطاع الخاص: دعم ريادة الأعمال من خلال توفير التمويل والمشورة، والاستثمار في صناعات محلية قادرة على المنافسة في السوق العالمية.

7- التركيز على الطاقة المتجددة: تطوير مشاريع الطاقة الشمسية والريحية، واستغلال الابتكارات في الطاقة النظيفة لتحفيز النمو الاقتصادي.

8- إشراك المجتمع المدني: نشر الوعي حول أهمية التكنولوجيا والابتكار، وتشجيع المشاركة المجتمعية في مشاريع التطوير التكنولوجي.

إن نجاح الأمم مرهون بقدرتها على التعلم من تجاربها وتجارب الآخرين، وعليها أن تسعى لبناء نظام متكامل يجمع بين الحكم الرشيد والتنمية المستدامة، من خلال تبني تقنيات المستقبل وابتكار استراتيجيات فعالة، يمكن للدول أن تخلق بيئة مواتية للنمو والازدهار.

يجب أن يتجاوز الوعي الفردي إلى مستوى جماعي، حيث يصبح كل فردٍ جزءًا من النسيج الاجتماعي الذي يسعى للتغيير، يتطلب ذلك توحيد الجهود بين الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص، مما يضمن أن يكون للتنمية أثرٌ ملموس على حياة المواطنين.

عندما تتكامل هذه العناصر، تصبح رحلة التحول من البؤس إلى النجاح ممكنة، وتُفتح آفاق جديدة للأجيال القادمة، إن التغيير الحقيقي يبدأ من داخل النفس، مما يستدعي عزيمة وإرادة صادقة لتحقيق مستقبل أفضل.

فلنتأمل جميعًا في هذه الفلسفة، ونتبنى خططًا شاملة تدفعنا نحو الريادة والابتكار، حيث تلتقي الأحلام بالواقع، ونعمل بجد لبناء مستقبل مشرق، يسهم في ازده