السبت - 20 أبريل 2019 - الساعة 04:48 م بتوقيت اليمن ،،،
محمد خديمي
تنتابنا فترات من الضيق الشديد تكتم أنفاسنا بوطأتها ما يجعلنا نتزهّد ونعرض عن كل شيء، وفجأة ترد علينا هدية من شخص عزيز فتتغيّر الحال ويزهر الربيع في قلوبنا، ونحسّ بأن الحياة قد عادت إلينا، نعود أطفالا في عمر الزهور نفرح بحبة حلوى تختزل كل معاني السعادة.
ولا يمكن اختزال مفهوم الهدية في ما يقدّم من ماديات ملموسة وأشياء ثمينة لا تقدر بثمن، وإنما خطاب الشكر والاعتراف بالجميل والمجاملة والكلمة الطيبة من أهم الهدايا التي تفرح النفس وتدخل عليها البهجة والسرور. كم يشتاق الأزواج إلى ما يعيد جسور الودّ بينهم ويؤجج عاطفة خبا وهجها وأضحت بلا لون ولا طعم ولا رائحة، ابتسامة عريضة صادقة، وقبلة على الجبين، وتربيت على الكتف، واحتضان دافئ تلقائي، وكلمة حالمة، وفعل مشجّع، كلها كفيلة بنقل موجات وجدانية إيجابية توشّح العلاقات الزوجية وتجعلها متجدّدة قابلة للاستمرار.
الهدية حركة ذهنية ونفسية قبل أن تكون عطاء ماديّا، قيمتها في كونها رمزا لتمتين العلاقات بين الناس، وربما القول المأثور السائد “الهدية لا تهدى” خير دليل على قيمتها الاعتبارية.
من هذا المنطلق تحاصرنا الذكريات التي تتعلق بالهدايا التي مثلت نتوءات في حياتنا أو مثلت منعرجات لها دلالات التأسيس والتأصيل على مستوى تكوين شخصياتنا، كنت في سن الدراسة الأول والتحق أخي الأكبر بالعمل وعند حصوله على راتبه أهداني قميصا لا يزال شكله ولونه راسخين في ذهني بعد ما يربو على الأربعين سنة وكأن الأمر صار البارحة. وأهداني أستاذ الفرنسية نصيحة “كن كما أنت ولا تخف”، وكانت زادي في بقية مشوار دراستي، ولا مجال هنا للحديث عن الهدايا الغرامية الطفولية الصادقة في مراحل لا يعرف فيها الإنسان سوى التلقائية.
يسأل الأطفال المتمدرسون خاصة أولياء أمورهم “حين أتحصّل على معدل ممتاز، ماذا تهديني؟”. هل الهدية يجب أن تكون نظير عمل أو موقف ما؟ هل تدخل في الجانب الجزائي عند مباشرة تربية الناشئة؟ هذه الأسئلة وغيرها تحتّم الغوص في مفهوم الهدية من حيث كونها رمزا لحميمية أي علاقة بشرية مهما كان طرفاها ومهما كانت دوافعها وأهدافها.
وقد وقع نظري على تعريف اجتماعي مبسّط للهدايا يقول “تختلف الهدايا التي يتهادى بها الناس ويتحابون من خلالها؛ فقد تكون بسيطة؛ كالورود، وقطع الشوكولاتة، والحلوى، وقد تكون قطع ملابس، أو مجوهرات؛ وقد تكون غالية الثمن أو كبيرة الحجم؛ كهدايا الأثرياء لأبنائهم بالمركبات الحديثة، أو المنازل الفاخرة، ويكمن المعنى العام للهدايا في المحبّة والمودة؛ ولكن يُمكن تحديد معنى الهدية الدقيق، حسب المناسبة أو الأشخاص”.
فالهدية ليست إلا حركة نبيلة للتعبير عن مشاعر الحب والودّ والاحترام، نهدي بطاقة بريدية لا ثمن لها، ونهدي وردة بلون معيّن، ونهدي جوهرة إن كان في استطاعتنا ذلك، ونهدي قصيدة، ونهدي خاطرة جادت بها القريحة في الهزيع الأخير من الليل كتراتيل وجدان فيّاض، ودمعة مكلومة تأبى البوح.. نفرح قلب الأم في عيد الأمهات، ونفرح الأطفال في المناسبات وفي كل الأوقات، ونجدّد علاقة غرامية بدأ الوهن يدبّ بين ثناياها وأزف موعد اندثارها، ونخفف عن مريض بباقة ورد قد يكون فعلها أكثر فاعلية من الدواء الذي يصفه له الأطباء.. حتى الابتسامة هدية والكلمة الطيبة هدية والمرافقة هدية وربما هذا النوع من الهدايا المعنوية والنفسية لا يقدّر بثمن، وهو المفهوم الذي يجعلها رمزية اعتبارية.
في الإطار الأسري توطّد الهدايا العلاقات الوجدانية بين الأزواج حيث تجدد مشاعرهم التي تترهّل بفعل الضغوط المادية والنفسية التي تتراكم وتتزايد كل يوم. أما في ما بين الآباء والأبناء فإنها تمتّن الثقة بينهم وتجسر شيئا فشيئا الهوة بين الأجيال وتجعل التواصل بينهم سلسا ويسيرا وتثمر هذه العلاقات حبا عائليا ودفئا أسريا.
أما على المستوى الاجتماعي فالهدايا تعتبر من الوسائل الكفيلة بتعميق معنى الصداقة أو الزمالة أو الجيرة.. وتمتد جسور الود والمحبة ويسود الوئام والانسجام وتتقلص الأنانية والبغضاء.. ولكي لا نكون مغالين في انتظاراتنا نقول إن الهدايا ترسي نوعا من الثقة النفسية والذهنية بين الناس وتساهم حتما في تحسين العشرة بين الناس فتتحسن بذلك أخلاقهم وتقضى حوائجهم.
فمن أيسر السبل التي تدخل الابتسامة والفرحة على القلوب تقديم الهدايا بأي شكل كانت وتكمن قيمتها في قيمة العلاقة بين الأشخاص وليس في قيمة الهدية المادية.